mercredi 23 juin 2010

بيان مشترك بين نقابات التعليم


بيان النقابة العامة للتعليم الاساسي



ورقة إعلامية حول ندوة ـ من أجل إصلاح تربوي ناجع ـ



يوم دراسي حول المنظومة التربوية


الاتحاد العام التونسي للشغل

الاتحاد الجهوي للشغل بتونس

النقابة الجهوية للتعليم الأساسي بتونس

النقابة الجهوية للتعليم الأساسي بتونس تحت إشراف الاتحاد الجهوي للشغل بتونس تنظّم يوما دراسيا حول المنظومة التربوية تحت شعار" من أجل إصلاح تربوي ناجع "وذلك يوم: السبت 22 ماي 2010

البرنــــامج

الحصة الصباحية:

س 9 - مداخلة الأستاذ: عبد العزيز الخماسي: نقابة التعليم الابتدائي والتجربة الأولى في الإصلاح التربوي:

س10 - مداخلة الأستاذ: مسعود الفيلالي: التوجهات التربوية في تونس ما بعد 56 من خلال الإصلاحات الكبرى والكتاب المدرسي.

س 11 - استراحة قهوة:

س 11 - و15 دق:

مداخلة الأستاذ: عادل بن عثمان:عمل المؤسسة التربوية في التعليم الأساسي.

واقع وآفاق: البرامج، المناهج، الفضاءات، الإطار البيداغوجي.

الإطار التنفيذي .

س 13 – غـداء:

الحصة المسائية:

س 14 و30 دق: مداخلة لأحد أعضاء النقابة العامة حول مشاركتها في اللجنة الاستشارية حول تجويد البرامج.

س 16 انتظام ورشات حول المداخلات للحوصلة وصياغة توصيات

كلمة النقابة الجهوية للتعليم

الأساسي بتونس في افتتاح اليوم الدراسي

حول" المنظومة التربوية "

الأخ الكاتب العام المساعد للاتحاد الجهوي للشغل بتونس

الأخوة نقابيي التعليم الأساسي بجهة تونس.

تحية نقابّية صادقة.

إيمانا من النقابة الجهوية للتعليم الأساسي بتونس بعمق الملفّ التربوي قطاعيا وشعبيّا بحكم طبيعته لأنه غاية في التعقيد سواء بسبب علاقته المتشابكة مع ما بخارجه من منظومات اجتماعية أخرى أو بسبب غابة التداخلات بين عناصره الداخلية " المعلم – المتعلم –المادة –المنهج ...

ووعيا منها بدقّة المرحلة وضعت النقابة الجهوية في صدارة أوّ لوياتها تنظيم هذا اليوم الدراسي بدعم من الاتحاد الجهوي للشغل بتونس لتجاوز حالة النقد السطحي للمنظومة التربوية من جهة وحالة التيئيس من الإصلاح وتقديم البدائل من جهة أخرى.

هناك شبه إجماع على فشل المنظومة التربوية وعديدة هي المؤشرات الدالة على ذلك: تدني المستوى المعرفي - عدم تملك اللغة القومية واللغات الأجنبية – عدم الاهتمام بالشأن العام...

وإن كان الجميع يقرّ بفشل المنظومة التربوية فإن وزارة التربية لا تقرّ إلا بوجود بعض الاخلالات فقط والكل يعرف سبب عدم إقرار ها بالفشل لأنها المسؤولة عن الخيارات إلى أدت إلى ذلك الفشل.

لذلك تعدّدت محاولات التشخيص وتعدّدت معها وصفات العلاج واستنفد الخطاب التربوي الرسمي جميع مفردات قاموس التغيير من تجويد ومراجعة وتجديد وتطوير وإصلاح...

- ماذا نريد من هذا الإصلاح؟

- هل الاقتصار على مراجعة الزمن المدرسي إصلاح للمنظومة ككل؟

- هل مشروع الإصلاح حاجة وطنية ملحّة أم له علاقة بمراجعة الدولة لخياراتها الاجتماعية التربوية نحو سلعنة التعليم عملا بتوصيات المؤسسات المالية العالمية؟

- هل الإصلاح المنشود يستهدف مزيد إرضاء صانع القرار الدولي الذي يعتبر مدارسنا مازالت متخلفة وتنتح إرهابيين؟

- ما مدى فاعلية مبدأ الإنصاف في التعليم البس الدفاع عن تعليم جيد هو دفاع عن المدرسة العمومية وكل تردّ لهذا التعليم هو تشجيع للمدارس الخاصة التي بدأت تنتشر كالفقاقيع؟

- ما هو دور المعلم في المنظومة التربوية المرتقبة هل هو أداة تنفيذ أم مصدر للمعرفة والعلم؟

- هل مشروع المندوبيات الجهوية للتربية سينقذ المدرسة من غياب التجهيزات وانعدام الصيانة؟

لمحاولة الإجابة عن هذه الأسئلة والتساؤلات الشرعية ارتأت النقابة الجهوية للتعليم الأساسي بتونس دعوة ثلة من المحاضرين من مناضلي القطاع المشتغلين بالفصل لتقديم إيضاحات حول المنظومة التربوية ولإنارة السّبيل من أجل بلورة موقف نقابيي قطاع التعليم الأساسي بتونس" من أجل إصلاح تربوي ناجع" مثلما أرتاينا أن يكون شعار هذا اليوم الدارسي.

وكذلك تكريسا للشعار الذي رفعه المؤتمر القطاعي الأخير" من أجل تعليم عمومي مجاني وإجباري وديمقراطي "لأننا نعتقد أن تحقّق السياسة التربوية للنظام السائد ليس رهنا بإرادته وحده لأن حقل التعليم هو حقل من حقول الصراع فالهجوم على المدرسة العمومية يقابله دفاع عن هذه المدرسة من قبل النقابيين والفئات الكادحة.

أن تطور المدرسة على مختلف المستويات في إطار النظام السائد يتحّدد في نهاية الأمر بتطور حركة الصراعات الاجتماعية هذا يعني أن الجماهير الشعبية قادرة بمختلف نضالاتها على التصدّى للسياسة المعادية للمدرسة العمومية وعلى تعزيز التعليم العمومي المجاني ودعمه.

فشكرا على حضوركم ومتابعة طيبة لفقرات هذا اليوم.

نقابة المعلمين التونسيين والتجربة الأولى لإصلاح التعليم زمن الاستعمار

عبد العزيز الخماسي

أستاذ المدارس الابتدائية وباحث في التاريخ

بسم الله الرحمان الرحيم

أرحّب بكل الحاضرين, و أشكر الاتحاد العام التونسي للشغل و الاتحاد الجهوي للشغل بتونس على تمكيننا من فضاء هذا اللقاء كما أشكر النقابة الجهوية للتعليم الأساسي بتونس التي نظّمت هذه التظاهرة, وبالمناسبة نحييّ تشكيلتها و نطلب منها تكثيف مثل هذه الأنشطة المثيرة لاهتمام الجميع.

عنوان هذه المداخلة هو " نقابة المعلمين التونسيين والتجربة الأولى لإصلاح التعليم زمن الاستعمار". فالمعلمون استطاعوا أن يتنظموا في هيكل جمعهم حول اهتماماتهم الوطنية والمهنية ثم التربوية، ومن هنا تتمحور الإشكالية حول البرنامج الإصلاحي التربوي الذي سطرته النقابة بين طموحات المعلمين وردود فعل المستعمر الغاشم.

ولتوضيح هذه المسألة اخترت أن أقدم في عنصر أول ولو بإيجاز لمحة عن تـأسيس نقابة المعلمين التونسيين و تطوراتها، حتى تكون للحاضرين فكرة عن الإطار التاريخي الذي جعل المعلمين يتبنون الإصلاح المذكور، ثم سنتطرق إلى ركائز إصلاح التعليم كما بدا للنقابيين، وكيف استطاع المعلمون هيكلة ذلك البرنامج ورفعه أمام دائرة التفاوض مع دولة الاستعمار، وماهي حدوده ومدى نجاح نقابة المعلمين في فرضه ليدخل حيز التطبيق.

1 ـ نقابة المعلمين التونسيين تأسيسها وتطوراتها

لقد عمدت سلطة المستعمر إلى ممارسات ولّدت ردود فعل الفئة المثقفة من التونسيين، ومن بينهم معلمو اللغة العربية الذين تأثروا بتلك التصرّفات والممارسات الاستعمارية في قطاعهم الصادرة عن إدارة فرنسية عرفت بسياستها التمييزيّة بين الأهلي والمستعمر، وظهرت عليهم غيرتهم على وطنهم ولغتهم العربيّة ومستقبل أبنائهم من الشعب، فتوفرت لهم الظروف الملائمة كي يجتمعوا في شكل يوحّد صفوفهم، ويؤسّس رؤاهم على مبادئ وطرق صحيحة، حسب نمط متوافق مع ذلك الظرف العام والخاص. فأسسوا جمعية التفّوا حولها لتجمع مصالحهم وتوحّد كلمتهم، سمّوها "الجمعيّة الوداديّة لمعلّمي اللّغة العربيّة"سنة 1919. وقد أمكن لنا الحصول على وثيقة أرشيفية([1])يأرشيف النقابة العامّة للتعليم الأساسي بتونس خلال قيامنا بالبحث حول "نقابة المعلمين التونسيين في فترة الحماية"،هي عبارة عن شهادة مكتوبة أدلى بها صاحبها "علي قطاط.

استهلّ علي قطاط كلمته بالإشارة إلى أن "الجمعيّة الودادية لمعلمي اللغة العربية" لها صلة متينة بواقعة "الجلاّز"، عام 1911، فيقول"...هذه الحركة لها صلة متينة بواقعة "الجلاّز" لأنها تعتبر ثورة، مثلما كانت لها نفس الصلة ببقية الثورات بتونس: الفكرية والوطنية والتحررية، وكل هته الحركات وقعت وبلغت أهدافها بفضل المثقفين، ومن بينهم رجالات التعليم، تحرّيا من أن أقول إنهم كانوا في المقدمة".

من خلال هذه الشهادة، نفهم وأن تأسيس "الجمعيّة الودادية لمعلمي اللغة العربية" كان ناتجا عن رد فعل لجماعة المعلمين تعبيرا منهم عن ثورة فكريّة تجاه ممارسات الاستعمار الفرنسي. كما أن ما ينسبه "علي قطاط" من أن هذه الجمعيّة لها صلة بأحداث "الزلاّج"، بالرّغم من البعد الزمني لتاريخ تلك الواقعة وتأسيس الجمعية المذكورة الذي تم سنة 1919، يمكن اعتبار القصد منه أن تأسيس الجمعية ورد كامتداد لحركة فكرية للنخبة المثقفة التي قادت تلك الأحداث، ولاسيما وأن معلمي اللغة العربية يعتبرون من الفئة المثقفة في تلك الفترة. ثم إن ردود الفعل التي عمدت إليها سلطات الحماية من قمع وغيره زرع بذرة الحقد تجاه الدولة "الحامية"، وهي فرصة لتخمّر الفكر لينحى إلى النضج السياسي لما تتوفر الظروف الملائمة.

يؤكّد "علي قطاط" أيضا في هذه الكلمة أنّ الاشتراكيين من الفرنسيين كان لهم دور في تأسيس "الجمعية الودادية لمعلمي اللغة العربية" وهنا يتجه قبول الفكرة نظرا لإبداء هؤلاء تعاطفهم مع الشعوب المستعمرة واستقطابهم لبعض رموز الحركة الوطنية، ثم الحركة النقابيّة فيما بعد. كما ذكر "علي قطاط" بعض الأساتذة الفرنسيين الذين ساعدوا المعلمين التونسيين على تكوين جمعيتهم، وهم كما عبر عن ذلك لقوا غضب سلطة بلادهم عنهم، مما كان ذريعة لترحيلهم من تونس. وليس غريبا على السلطة الاستعمارية أن تتصرّف هكذا مع كل مناهض للاستعمار خاصة في فترة "حزب المعمّرين" الفرنسي.

مهما يكن من أمر فإن معلّمي اللغة العربيّة التونسيين بأصنافهم عوملوا بطرق متمايزة لفائدة الفرنسي، وقبضوا من الأجور أدناها مقارنة بما يتقاضاه زملاِؤهم الأجانب، رغم قيامهم بنفس العمل ولكن كل بلغته. وتلك الظروف المهنية المزرية تضافرت مؤثراتها مع الظرفيّة العامة للبلاد والتغيرات العالمية الّتي حصلت بعد الحرب العالمية الأولى ، وتفاعلت مع الموجود من الأفكار الرافضة لتلك الأوضاع، فأفرزت ما سمي ب"الجمعية الودادية لمعلمي اللغة العربية".

تذكر وثيقة أرشيفية([2]) أخرى أنّ هذه "الجمعية" تأسست في شهر جويلية 1919، وتم الترخيص لها يوم 12 نوفمبر 1919 كما تنصّ الوثيقة أيضا عل فصلين من قانونها الأساسي هما كما يلي:

1) ـ الفصل الأول: تأسّست " جمعية ودادية" بين جميع أعضاء التعليم العربي الابتدائي العام بالقطر التونسي تحت اسم "الجمعية الودادية لمعلمي اللغة العربية" مقرها بحاضرة تونس في محل يعينه مجلس الإدارة.

2) ـ الفصل الثاني: تأسست هذه الجمعية للمقاصد الآتية:

• أولا: لتوطيد رابطة وداد ثابتة بين جميع أعضائها وتنمية إحساسات التعاضد بينهم وتسهيل تبادل الآراء فيما يتعلق بأساليب التربية والتعليم.

• ثانيا: للسّعي وراء الدفاع عن حقوقهم المادية والأدبية بين جميع الأعضاء عامة وبين كل فرد خاصة.

• ثالثا: لإصدار مجلة شهريّة باللّسان العربي تنشر قرارات الجمعيّة وتبحث عن ترقية أساليب التعليم العربي.

فالمعلمون التونسيين أسّسوا "الجمعية الودادية لمعلمي اللغة العربية" كأول تنظيم التف حوله صنف واحد من رجال التعليم وهم أساسا معلمو اللغة العربية وجعلوا لها أهدافا. ثم شرعوا في العمل انطلاقا من أوضاعهم الأدبية والمادية التي تجسدت في السياسة التمييزية الاستعمارية. وتلخصت مطالبهم في بداية الحركة المطلبية خاصة في:

1) ـ المساواة مع معلمي اللّغة الفرنسية من الفرنسيين في المرتبات والمنح.

2) ـ تنظير المؤدبين بالمعلمين.

3) ـ إرجاع منحة السكن كما كان معمول به سنة 1910.

4) ـ جعل اللغة العربية إجبارية في الشهادة الابتدائية، دفاعا منهم عن لغة وطنهم.

5) ـ ترسيم الوقتيين وتوحيد اللقب بين القائمين بالتعليم العربي من التونسيين.

6) – إصلاح التعليم بما يضمن تثبيت الهوية العربية الإسلامية للتلاميذ التونسيين والارتقاء يهم إلى متطلبات المعرفة والرقي.

وقد تبين أن هذه الجمعية عرفت في بداية تأسيسها جملة من المشاكل والعراقيل لتحقيق فحداثة تأسيسها وعدم تعود منخرطيها على مثل هذه الأعمال الجمعيّاتية، جعلها تجد صعوبة في إقناع المعلمين بجدواها، وبالتالي لم تكن في البداية مستقطبة للقاعدة على الوجه الأكمل. وهذا المشكل زاد تعقيدا مع أزمتها المالية الناتجة عن عدم دفع الاشتراكات وعدم رواج مجلتها "التعليم العربي" في البداية، إذ هي من الروافد المالية الأساسية.

هناك مشكل آخر حال دون تحقيق الجمعية الودادية لأهدافها في فجر تأسيسها وهو مركزيتها، حيث كانت متمركزة في تونس العاصمة وهو ما حدّ من إشعاعها، إذ لم تكن ممثلة في الدواخل. كل ذلك انضاف إليه موقف الإدارة المتصلب أمام تلك المجموعة الصغيرة من المعلمين في تلك الفترة، وهي قد اعتمدت معهم سياسة الرفض للمطالب بتعلاّت واهية، والوعود غير الجادة.

هذا الوضع الذي بدأت فيه الجمعية مسيرتها جعلها تتوقف وقفة تأمل، وجعل المعلمين يسعون لجدوى عمل جمعيتهم، ويعون بتدهور أوضاعهم المادية والأدبية، فتفطنوا إلى أهم نقطة وهي ضرورة تكتلهم في صلب الجمعية الودادية على اختلاف أصنافهم من مؤدبين ومدرسين ومعلمي اللغة العربية، وذلك سنة 1927، فاتحدوا. وبذلك تجمعت المصالح وتوحدت المطالب واشتد عود الجمعية مع ذلك الاتحاد لتأخذ طريقة المطالبة والتفاوض مع الإدارة منحى آخر. فاعتمدوا على وسطاء لتبليغ مطالبهم وتطلعاتهم كالمجلس الكبير ومجلس الدولة بباريس ولجنة النظر في المرتبات.

تكتيكيا تفطن المعلمون التونسيون إلى خلل منهجي وهيكلي حال دونهم وتحقيق مطالبهم واستقطاب القواعد، وهو مركزية عملها الذي انحصر في تونس العاصمة، وهو ما شكل قصورا نسبيا لبلوغها أهدافها. لذا فكر ممثلوهم في تكوين خلايا داخل البلاد بدءا بسوسة والكاف، ثم انتشرت هذه النيابات وتوسع تمثلها جغرافيا وأصبحت ممثلة في عدة جهات، وهذا مكنها من تعبئة المعلمين وحشدهم أكثر من قبل، فالتفوا حول الجمعية وتحسن رواج "مجلة التعليم العربي" مصدر مال الجمعية. وبذلك وسعت هيأة الجمعية نشاطها وأثبتت المزيد من قدرتها على الاستقطاب، وأعدت برامج أدبية ومادية وعلى رأسها مشروع سموه "مشروع إصلاح التعليم"، تقدموا به إلى إدارة التعليم.

مع ذلك الانتشار وقصور انتماء بعض معلمي اللغة الفرنسية من التونسيين إلى النقابة اللائيكية عن الذود عليهم بالمنفعة، نظرا لعدم توافق المصالح بين الجنسين، تكتل المعلمون التونسيون على اختلاف أصنافهم بقطع النظر عن اللغة التي يدرسون بها، وانضموا إلى الجمعية الودادية، ثم أصبحت فكرة تكوين نقابة للمعلمين التونسيين تخامر أذهانهم. وتجسدت الفكرة مع وصول الجبهة الشعبية إلى السلطة في فرنسا، لتتحول الجمعية الوداديّة إلى نقابة، وتأسست بذلك "نقابة المعلمين التونسيين للتعليم العربي العمومي"، ولم تشمل معلمي اللغة الفرنسية من التونسيين في البداية لتتمكن النقابة من الانخراط في الجامعة القومية للنقابات، فالقانون آنذاك يمنع وجود نقابتين من صنف واحد.

ومع ذلك التنظيم الجديد في صلب الجمعية أصبحت النقابة تؤمن بأنها تستمد قوتها من الفروع التي هي الرابطة القوية بينها وبين المعلمين، وعن طريق هذه الفروع يبلّغ المعلمون صوتهم. وبالتالي أثبتت النقابة موقفها، وتمكنت سنة 1937 من اقتلاع أمر علي سوى معلمي اللغة العربية بنظرائهم معلمي الفرنسية من الفرنسيين في المرتبات والمنح إلى غير ذلك من الامتيازات الأخرى.

هذه هي الخطوة الأولى للمعلمين التونسيين في نقابتهم، لكن مع توالي الأحداث وتغير الأمور أصبح هنا ك نقص في جدار المعلمين وهو الصنف الآخر منهم، وهم معلمو اللغة الفرنسية. ولمّا سمحت الظرفية العامة والخاصة أمكن التحاق كل أولئك بمصاف النقابة" فأطلق عليها اسم "النقابة التونسية للتعليم العمومي" التي تأسست سنة 1945 وشملت كل المعلمين التونسيين بلا استثناء.

لقد تمت هيكلة النقابة الجديدة ليشتغل أعضاؤها بكل ما بقي عالقا زمن سابقيهم وأخذوا عنهم المشعل وتمسكوا واستماتوا حتى فتحت معهم الإدارة باب الحوار الجدي الذي طالما ارتبط بعدة أوضاع أخرى محلية وخارجية وأرجعوا ما أمكن من مكانة اللغة العربية وأعادوا للمعلم التونسي اعتباره.

والملاحظ أن الاستعمار الفرنسي اضطرّ في ظرف ضغوطات عالم ما بعد الحرب العالميّة الثّانية إلى تطوير نشر التعليم الابتدائي بالبلاد التّونسية بالتّوازي مع الّرفع في عدد المعلمين التونسيين بما دعّم مكانتهم في المجتمع وإشعاعهم. فكان للمعلّمين دور فعّال في التّنظيمات السياسية والمهنية الوطنية التونسية أي عامة في حركة التحرير التونسية بعنصريها السياسي والنقابي إلى تحقيق الاستقلال.

وبعد أن قدمنا هذه الفكرة الوجيزة عن التطورات التي عرفتها نقابة المعلمين منذ تأسيسها نمر الآن إلى الإصلاح التربوي الذي نادى به المعلمون التونسيون في إطار جمعيتهم النقابية.

2 ـ الإصلاح التربوي حسب رؤية الجمعية الودادية لمعلمي اللغة العربية

بعد أن شهدت هيكلة "الجمعية الوداديٌة لمعلمي اللغة العربية" نقلة نوعية وأصبحت تضم كل أصناف التعليم الابتدائي من المعلمين التونسيين، وبعد مدّة نضال امتدت ردهاتها على أكثر من عشرية تقريبا منذ انبعاثها، ودعت الجمعية سنة 1930 وقد مهدت فيها لأعمال أكثر جدية، حيث فكّر معلمو العربية في إصلاح التعليم العربي واستفتوا زملاءهم بالآفاق، فكانت الأجوبة دالة على اعتناء الجميع بالأمر و فهمهم لأهميته، وهو منحى جديد ينحوه معلمو العربية الذين أقنعتهم التجربة بأن لا نجاح لهم يرجى إلا إذا اقتنعوا بأهمية العمل الذي يقومون به مع الحرص على تنظيمه.

في تلك السنة تجاوزوا الاكتفاء بالمراسلة وسنّوا سنّة جديدة لزيادة التعارف والتآلف، فاتصلوا بالجهات اتصالا مباشرا، وكان النجاح فوق المأمول حول إبداء الرأي في التعليم القومي لمفكري الأمة، وهذا النجاح كان الدافع للهيئة الجديدة سنة 1931، فعملت على تحقيق آمالهم كي تكون العربية بالمكاتب الدولية عزيزة الجانب موفورة الحظ. ولقد تجسّد ذلك في رسم الجمعية لمشروع، يهدف إلى إصلاح حال المعلمين عامة، ومن ورائه إصلاح التعليم خاصة، وعبروا عن إيمانهم بأن لا إصلاح للتعليم ما لم يصلح شأن المعلمين، إذ اشتمل هذا البرنامج على قسمين قسم مادّي وقسم أدبي([3]). وتمّ تدوينه في شكل جملة من المطالب ضمن تقرير وجّه إلى المدير العام للعلوم والمعارف بتاريخ 23 جوان 1931.

فما هي أسس المشروع ؟ وما هي ردود الإدارة حولها ؟

ذكّرت الجمعية في كتابها هذا مدير المعارف بما قدّمته له من مطالب مشافهة ومكاتبة، وأعلمته بأنّها أعملت الرأي وجعلت همّها مصلحة التعليم العربي، وأنه قد آن الأوان لتدارك ما ضاع من وقت، ثم عرضوا عليه مشروعهم بقسميه المادي والأدبي.

يشتمل القسم المادي على موضوع المرتبات ومنحة السكنى ومنحة ترشيح المعلمين ومنحة الشهادات غير اللازمة.

فبالنسبة للمرتب أبرز أعضاء الجمعية بمكتوبهم ما يعانيه القائمون بالتعليم العربي من خصاصة، لضعف مرتباتهم التي لا تفي بحاجاتهم ولا تغنيهم عن التفكير في أمر معاشهم، خاصة إذا قارنا ذلك بما يتقاضاه المعلم الفرنسي من أضعافه بالإضافة إلى الثلث الاستعماري.

أما بالنسبة لمنحة السكنى فقد اعتبر ممثّلو المعلمين أن ضعف مرتّب معلم العربية موجب آخر لتخصيص منحة يتدارك بها هذا النقص في ذلك، ولا كما عمدت الإدارة إليه من حرمانه منها ألا و قد تمتع بها المعلمون طيلة ثلاثة أعوام ، و اقتصرت بدل ذلك على منحة البعد التي لا تتجاوز غايتها ربع منحة السكنى و لا يتمتع بها إلا من كان خارج مسقط رأسه، وكان من جرّاء ذلك أن عجز معلمو العربية عن استئجار محلات مناسبة لصحتهم وكرامتهم.

وهكذا قضي على معلم العربية أن يعيش وحيدا بعيدا عن أطفاله حتى أصيب بعضهم بسبب ذلك في أعظم نعمة أنعم بها الله على الإنسان واختلت منه مداركهم وشعورهم.

في المقابل ينعم معلمو الفرنسية بمكتب فسيح الأرجاء، يتخلله الهواء الطلق وتزينه البهرجة والأثاث المناسب، عائشين بين أهلهم وأولادهم مرتاحي البال. فهم يسكنون محلات معدّة للسكن توفرها لهم الإدارة، وإن تعذّر عليها ذلك تعطيهم منحة السكنى التي تمكّنهم من استئجار ما يليق بهم من المساكن، هذا بالإضافة إلى أن منحة السكنى لمعلمي الفرنسية قد تضاعفت وبقيت منحة البعد للتونسيين على حالها رغم زهدها.

أما أمر منحة التخرج من مدرسة ترشيح المعلمين فقد كان يتقاضاها جميع قدماء هذه المدرسة، ثم ألغيت على الجميع ثم ردت إلى معلمي اللغة الفرنسية خاصة، فأعضاء الجمعية طالبوا في هذا المشروع بإرجاعها كما كانت. وبنفس الطريقة عومل أصحاب الشهادات غير اللازمة، إذ خصصت إدارة المعارف المنح لمن يحمل شهادات ذات اعتبار، من شأنها أن تجعل موظفيها أعلى قيمة وأضمن فائدة لمصالحها، إذ أعطت لمن يحمل شهادة "البروفي" العربي منحة سنوية معتبرة بقطع النظر عن جنسيته ، ثم تراجعت وجعلتها لحاملي الجنسية الفرنسية فقط، والحال أن التونسي هو الآخر كالفرنسي يتكبد مجهودات وسنوات كي يتعلم لغة الآخر، فأعضاء الجمعية الودادية طالبوا بسحب هذا الامتياز بالمنحة على التونسي الحامل للشهادة الفرنسية وعلى الفرنسي الحامل للشهادة العربية على حد السواء. وفي هذا المضمار فالمشروع ينادي بالتساوي في الحقوق والواجبات.

أما القسم الأدبي من المشروع الإصلاحي فقد شمل المطالبة ب.

- تخصيص ثلث الوقت للتعليم العربي بجميع الأقسام، لأن الاقتصار على إيكال أمر تدريس العربية للصدف والاجتهاد كما كان معمولا به، و إيثار قسم على آخر، وإعفاء الأقسام العليا أحيانا من الدروس العربية، لا ينتظر منه فائدة، رغم أن المكاتب الفرنسية العربية قد جعل لها برنامج خاص لوجود العربية و مبادئ الدين الإسلامي فيها.

- تسطير برنامج للتعليم العربي، لاجتناب ضياع الوقت سدى ويعرف القائمون به ما يرجى وصولهم بتلاميذهم في مختلف الأقسام.

- تخصيص كتب لمعلمي اللغة العربية، وقسم من مكتبة ترشيح المعلمين للكتب العربية تعيرها الإدارة العامة للقائمين بالتعليم العربي، مثلما هو جار بالتعليم الفرنسي، وعدم الاكتفاء بالكتب الفرنسية.

- المحاضرات الصناعية وما يحقق الفائدة من المطالعات والتجارب، والمحاضرات البيداغوجية التي هي لمعلمي اللغة العربية أوكد منها لغيرهم، ضرورة أن القائمين بالتعليم العربي غير منحصرين في خريجي مدرسة ترشيح المعلمين، وأن تلامذة القسم الإسلامي أنفسهم غير معتنى بهم من الوجهة الصناعية اعتناء كافيا، مع أن ذلك هو أكبر ميزة تميز مدارس ترشيح المعلمين.

- ضمان الانتفاع بهذه الإصلاحات: لا يمكن أن تأتي هذه الإصلاحات بما يرجى من الفوائد إلا إذا ألزم جميع تلامذة المكاتب الفرنسية العربية بحضور جميع الدروس العربية بلا استثناء و لا قيد، لأن هذه المكاتب شيّدت لتعليم اللغتين ومتابعة جميع البرامج، لا لتكون تحت رحمة بعض صغار الأطفال وأوليائهم، ولا يعقل أن يوكل أمر التعليم إلى أفراد أجانب عنه لا يعرفون من حقيقته شيئا، فإذا ارتأى بعض أولياء التلامذة جهلا منه وتظاهرا أن يقتصر ولده على اللغة الفرنسية فما عليه إلا أن يطرق باب المكاتب الفرنسية.

- لقد سر هيئة التعليم العربي بما بلغهم من أن الإدارة ألزمت بمكتوب رسمي مدير أحد المكاتب بجبر جميع التلامذة على تتبع مواد اللغتين معا لا الاقتصار على الفرنسية. ولذا أكد أعضاء الجمعية الودادية على المدير العام للعلوم والمعارف أن يعمم تلك التعليمات بمنشور يبعث به إلى جميع المكاتب الفرنسية العربية، وينبغي أن يكون الامتحان في جميع المواد الموجودة في العربية، والتي يتعين إدخالها كالتاريخ الإسلامي، و جغرافية البلاد التونسية خصوصا والبلاد الإسلامية عموما. أما الاقتصار على تخيير التلامذة بين لغتهم القومية ومادة أخرى ثانوية والاكتفاء فيما إذا اختاروا الأولى بإنشاء بسيط ووضع شكل بعض الكلمات فهذا مما يزهد التلامذة في الدروس العربية ويجعلهم يستخفون بمن يشتغل بها.

- الرتبة الاستثنائية للمؤدبين،حيث هناك إصلاح آخر وجب المطالبة به للمؤدّبين الذين قضوا سنين طويلة في الخدمة، وهو إعفاؤهم من الامتحان الذي يمكنهم من اجتياز الرتبة الثانية والأولى الموجودتين في سلم بقية زملائهم، وذلك لأن النظام لا يترتب عليه إلاّ حرمان بعض المؤدّبين القدماء من الوصول إلى أقصى ما عين لمعلمي العربية.

وإذا كان المؤدب قد أحرز وظيفته نظرا للشهادة العلمية التي تؤهله لها، أو أرضى متفقديه بما علمته التجارب، وأتمه من معلوماته بما قضاه من امتحانات صناعية، فما معنى هذا الامتحان الذي جعل عقبة له في آخر مرحلة من حياته التعليمية ؟

- التحري في اختيار معلمي العربية لضمان الكفاءة وحسن الأداء المرتقب منهم.

أما فيما يخص المستقبل، فإنهم ينظرون إليه بعين آملة ونفوس تائقة إلى كل خير، ويلفتون نظر المدير إلى ما يتحتم من مزيد التحري في اختيار من يندبون التعليم القومي، ويرون أن أحسن الوسائل إلى ذلك هو توسيع نطاق القسم الإسلامي من مدرسة ترشيح المعلمين، ورفع مستوى التعليم العربي فيه، مع رفع عدد تلاميذه حتى يتهيأ من العدد ما تحتاجه الإدارة كل سنة، إذ تقتضي الطبيعة و العادة بأن يتخرج المعلمون من مدارس خاصة بذلك. فتحصر الإدارة العامة اختيارها في خريجي القسم الإسلامي، وحملة شهادة التطويع في العلوم، و شهادة الدبلوم العليا "arabeBrevet d"، و ترشّح من حملة هاتين الشهادتين من أثبت البحث الدقيق لياقتهم من الوجهة العلمية والأخلاقية، وتلزمهم بقضاء مدة للتمرّن على صناعة التعليم بالقسم الإسلامي من مدرسة ترشيح المعلمين، و لا تقل تلك المدة على ثلاثة أشهر، يكونون في أثنائها موضوع ملاحظة دقيقة من حيث مقدرتهم ومواهبهم من طرف مدير التعليم العربي بالقسم.

- تمثيل معلمي العربية ببعض الهيئات الإدارية، حيث طالبوا المدير العام للمعارف منذ عامين من ذلك التاريخ تمثيل معلمي العربية بالمجلس الأعلى للتعليم.

كذلك طلبوا حق التمثيل بمجلس النقل والمجلس التأديبي ولجنة الامتحان الصناعي.

- تسوية المعلمين في الامتيازات: هناك امتيازات طالما تبرّم منها معلمو العربية، ورأوا في استمرارها حطّا من قيمتهم وازدرائهم، وهما إلزام معلم العربية بالرتبة الثالثة أثناء السفر، بينما يركب زميله الفرنسي بالثانية، والإنعام عليه بالصنف الرابع من " النيشان" بينما ينعم زميله الفرنسي بالثالث بادئ بدء.

في النهاية ختم أعضاء الجمعية الودادية مشروع إصلاح التعليم الذي تقدموا به بجزئية اعتبروها سهلة التدارك، و هي أن تكون جميع المناشير التي تخصّ التعليم الابتدائي مترجمة إلى العربية، حتى يكون القائمون بالتعليم العربي على بيّنة تامة من تعليمات الإدارة العامة للتعليم.

بذلك تكون هيأة التعليم العربي قد وسّعت مجال نشاطها، و بالتالي أثبتت المزيد من قدرتها على الاستقطاب والإشعاع في دواخل البلاد، وأتت على ما ترتئيه من الإصلاح لرفع مستوى التعليم العربي و بثّ الثقة في نفوس التونسيين معلمين ومتعلمين. وقد نبعت هذه المطالب بعد استفتاء المعلمين التونسيين فيها، مما أكسبها طابع الشمولية. إذ أتت على كل ما ناضلت الجمعية من أجله طوال السنين من الأمور الأدبية إلى الأمور المادية، وكانت هذه المحطة هامة في تاريخ الجمعية الودادية لمعلمي اللغة العربية إذ سبقت نقلة نوعية في خطابها تجلت مع تحويل الجمعية الودادية إلى نقابة. فما هي ردود فعل الإدارة الفرنسية تجاه هذا المشروع؟

3 ـ المشروع الإصلاحي بين الإقرار والمتابعة

لقد بدأت أولى آثار هذا المشروع تظهر و تتحقق، وذلك من خلال مذكرة صدرت من متفقد التعليم الابتدائي تفرض على المسلمين الذين يزاولون دراستهم بمدارس للغتين أن يدرسوا باللغة العربية. و قد لاحظت نقابة المعلمين التونسيين للتعليم العمومي أن بعض المديرين بهذه المدارس لم يمرّروا هذه المذكرة بين صفوف المعنيين بالأمر وأن البعض الآخر منهم ترجموها كما يحلو لهم، وهذا ما جعل التلاميذ المسلمين محرومين من الدّراسة باللّغة العربيّة، وبالتالي صدرت مراسلة من نقابة المعلمين التونسيين إلي متفقد التعليم الابتدائي لإعلامه بالأمر وطلبوا منه الدّعوة من جديد إلي تطبيق المذكرة موضوع المراسلة([4])، وذلك في نطاق متابعة النّقابة لتنفيذ قرارات الإدارة وتدخّلها كلّما دعت الحاجة.

كما تفيد مراسلة أخرى([5]) أن النظر في ترسيم المعلمين وقع خلال شهر مارس 1937 سواء لمعلّمي العربية أو الفرنسية و أن الإدارة بدأت بإعلام الفرنسيين، و قد شارك ممثل نقابة المعلمين في لجنة التّرسيم و أن المجلس الكبير خصّص لذلك اعتمادا يسيرا لا يمكّن من إرضاء كافة المعلمين، مما دعا إلى أخذ ثلث عدد الفرنسيين و ثلث عدد معلمي العربية. أما المتخرجون من الترشيح فقد وقع ضمّهم إلى الرّسميين من المعلمين أو المتربصين بالنظر لكونهم متحصّلين على شهادة المقدرة أم لا. أما المؤدبون و معلمو الفرنسية غير المتخرجين من الترشيح فانه تم الاتفاق بين أعضاء لجنة التّرسيم بحضور مدير المعارف على كيفية انتخاب الثلث منهم، بأن يمنح المعلم نصف نقطة على كل سنة قضاها في التعليم قبل حصوله على شهادة المقدرة، ثم يمنح نقطة عن كل سنة بعد الحصول عليها، ثم يضاف عدد الامتحان الصناعي مع إضافة آخر لآخر تفقد، ثم تضاف نقطة لكل ولد من أولاد المعلم و نقطة لخريجي الترشيح و نقطة لحامل البروفي العليا أو شهادة الترشيح للقسم الإسلامي، أو الباكالوريا أوالتّطويع أو الدبلوم العليا العربية.

و بعد إجراء هاته العملية أسفرت النتيجة على تخويل لقب "استاجيار" (stagiaire) حقيقة إلى عدد من المؤدبين ، أما ما بقي من المؤدبين ومعلمي الفرنسية فسيقع إلحاقهم عندما تسمح مالية الإدارة ، على أنه لا يعني اعتبار المؤدب المتربص كخرّيج التّرشيح المتربص و الدليل على ذلك هو أن المؤدب الذي أسند له لقب متربص"Stagiaire"، يعني ذلك أنه معلم يقضي مدة التمرن لتتمكن الإدارة من معرفة قيمته الصناعية ولا يتمتع بحقوق المتربص، خريج الترشيح كمنحة الأولاد و المشاركة في صندوق التقاعد و غير ذلك، وطبقا للقرار المشار إليه ضمن أعمال لجنة التّرسيم فإنّ المؤدّبين الذين منحوا لقب "استاجيار" سيتمتعون بكامل الحقوق التي تقتضي تلك التسمية ثم بعد ذلك يرسّمون.

لم تتوقّف مكاسب المعلّمين التّونسيين عند ذلك الحدّ بل ظهرت أخرى مع مؤتمر نقابتهم بالقيروان الذي دعت اللّجنة التّنفيذية لانعقاده يوم 23 ماي 1937([6]).

من الأشياء التي تم تسجيلها في ذلك المؤتمر انتخاب ثلاثة لجان هي على التوالي([7]):

1ـ اللّجنة الإدارية و تتركب من اللجنة التنفيذية للنقابة ومن هيئات الفروع، ومهمّتها النظر في سير النقابة و فروعها و تبادل الآراء المفيدة في هذا الصدد.

لجنة التربية و تتركب من عشرة أعضاء: خمسة يعيّنون من طرف النقابة و خمسة ينتخبهم المؤتمر. والمهمّة النظرية لهذه اللجنة: التربية البدنيّة و طباع الأطفال و وسائل علاج الصفات المعيبة: الأسرة و الوسط و المدرسة.

3ـ لجنة التعليم و تتركب من عشرة أعضاء كلجنة التربية، و مهمّة هذه اللجنة النظر فيما يلي:

* أسباب انحطاط نتائج التعلّم

+ وسائل العلاج

+الوقت

+الكتب

+المواد المدرسية

+تقرير برنامج يوافق مقررات مجلس التعليم الأعلى

+ المكتبات المدرسية

+ انتخاب المعلّم

وفي 15 جوان 1937 واستجابة لمطالب المعلمين صدر رسميا الأمر العلي الذي تم بمقتضاه إلحاق معلمي اللغة العربية بالمعلمين الفرنسيين وهذا ملخصه:

الفصل1ـ اعتبارا من غرّة جوان 1937 يقع فيما يخصّ المرتّبات والمنح على اختلاف أنواعها إلحاق معلّمي اللّغة العربية بعلّمي اللغة الفرنساويّة بالمكاتب الابتدائية.

الفصل2ـ وقع تعيين مرتّب معلّمي اللّغة العربيّة والمدرّسين والمؤدّبين من 10500 فرنك للمتربص إلى 19000 فرنك لذوي الرتبة الأولى. ولا ينشأ عن هذا التّحوير في معين سلمم المرتّبات الالمعمول به لأولئك الأعوان أدنى ترتيب جديد.

ومن حيث الرتب فالمؤدّبون الرّسميّون وحدهم يتحصّلون على تسمية جديدة في الرّتبة ويحتفظ المؤدّبون الملحقون على نظامهم الحالي في الإلحاق ويتمتّعون بالسّلّم الجديد لمرتّبات المؤدّبين.

وقد ألغي الامتحان الصّناعيّ المطلوب من المؤدّبين لارتقائهم من الرّتبة الأولى إلى الرّتبة الاستثنائية، والمؤدّبون الّذين قضّوا إلى غرّة جانفي 1938 أكثر من أعوام خمسة في التّربّص بالرّتبة الأولى القديمة الموافقة للرّتبة الثّالثة الجديدة تقع ترقيتهم بالاستحقاق إلى الرّتبة الثّانية الجديدة وذلك بدون ملحق أقدميّة في التّرقّي.

الفصل3ـ بالعمل بالمستندات القانونيّة المطلوبة من معلّمي اللّغة الفرنساويّة يتقاضى معلّمو اللّغة العربيّة زيادة عن مرتّبهم المعيّن بالفصل الثّاني منح المكاتب الفرنساويّة العربيّة ومنح السّكنى ومنح الجنوب وجميع المنح الأخرى والأجور المخوّلة من أجل القيام بخدمة زائدة في التّعليم ومراقبة "الكنتينات" والدّروس اللّيليّة... مثلما هي معيّنة بالأوامر والقرارات التّونسيّة المتعلّقة بمعلّمي اللّغة الفرنساويّة.

الفصل4ـ على أنّ الإصلاح المقرّر بواسطة هذا الأمر يقع إنجازه أثلاثا على ثلاث سنوات.

الفصل5ـ أبطل العمل بجميع الأحكام المخالفة بهذا الأمر.

ـ كتب في 5ربيع الثّاني سنة 1356 وفي 15جوان 1937ـ

من خلال قراءة هذا الأمر العلّي نلاحظ أنه يستند إلى عدة أوامر ترجع تواريخها إلى العشرينات و الثلاثينات، و هذا دليل على قدم المطلب وامتداده إلى الجذور الأولى للقوانين المنظمة لإطار التدريس، و هذا أيضا دليل على أهمية هذا القرار الذي جعل حدّا لفوارق كانت بين صنفين من المعلّمين متساويين في الأداء والواجبات ولم يكونا متساويين في الاعتبار والحقوق، لذا فهو يًعدّ انتصارا عظيما لنقابة معلّمي العربية التي أخذت المشعل في الحقيقة عن الجمعية الودادية لمعلّمي اللّغة العربيّة التي كان لها الفضل في إدارة القضيّة في العشرينات و قدّمت ما رأته صالحا من المبرّرات التي تمسّك بها أعضاء النقابة من بعدهم وأجبروا الإدارة الفرنسية على الاقتناع والاعتراف بمطلبهم الرئيسي الذي اعتبروه اعترافا بمكانة شريحة من الشعب، وهم رجال التعليم، لم تكن تُعتبر ورفعا من مكانة اللغة العربية.

بمجرد أن وردت برقية إلى المؤتمرين بالقيروان بها خلاصة الأمر العلّي الذي سوى معلمي العربية بمعلمي الفرنسية، عزمت النقابة على عرض فكرة تأسيس "نادي المعلمين" على المؤتمرين بمدينة القيروان، فوافقوا بالإجماع، على التنازل عن زيادة شهر في كل مرحلة من المراحل الثّلاثة لفائدة مشروع تأسيس النادي.

ورأوا أن يكون مشتملا على قاعة فسيحة للمحاضرات والاجتماعات وأخرى للمطالعة ومكتبا للنّقابة ومحلاّت خاصة بما يوفّر الرّاحة للجميع من زائرين ومجتمعين به، وأن يشتمل النادي على مكتبة قيّمة فنّية أدبيّة.

ثم أدلت النقابة بالتوصيات التالية([8]).

أولا:أن النادي سيكون ملكا للنقابة.

ثانيا: مقرّه العاصمة.

ثالثا: سيكون في قلب العاصمة و في الجهات الأكثر عمرانا.

رابعا: سيكون حقّا مشاعا بين كافّة رجال التعليم.

خامسا: سيكون مفتوح الأبواب دائما.

بعد الانتهاء من أمور الإلحاق بمعلمي الفرنسية بقي موضوع هو من الأمور التي كان معلّمو اللّغة العربيّة يتأفّفون منها و يشكون ثقل عبئها عليهم هي تفرقتهم في الاسم في حين أنهم يؤدّون مهمّة واحدة "مؤدّب, مدرّس, معلّم عربيّة". وفعلا تقرّر أن يكون للقائمين بالتعليم العربي اسم موحّد "معلم اللغة العربية" Instituteur de langue arabe وأعطى مدير المعارف تعليماته اللاّزمة إلى جميع من يهمهم الأمر باستعمال هذا اللّقب.

بذلك صارت هناك حقيقة ملموسة تتمثل في وحدة التونسيين القائمين بالتعليم الدولي في هذه البلاد في تلك الفترة على اختلاف تقسيماتهم و مميزاتهم القانونية من معلمي اللغة الفرنسية ومدرسين و معلّمي اللّغة العربيّة و مؤدّبين، وعلى اختلاف في طريق ترشيحهم لخطتهم لتربية أبناء وطنهم و رهان مستقبله و آمال نهضته, و لا يخفى على أحد ما لهاته الوحدة من الأهمية و القوّة التي اكتسبها المعلّمون منها، لا سيما و هم من النخبة التونسية التي لها تأثيرها المباشر على العامة و الخاصة و على مستقبل البلاد ككل.

بعد انقضاء سنة 1937تمّ تنظيم "المجلس الثّاني لنقابة معلّمي العربيّة" فانعقد يوم السّبت 11 جوان 1938 بالمكتب العربي الفرنسي بالحلفاوين بتونس، واحتوى جدول أعمال المجلس النقابي فيم احتوى عليه على النظر في برنامج التعليم، فقد طلب الكاتب العام التّدارس في الموضوع من طرف المجلس النقابي لما له من الأهمية خصوصا أنّه كان عازما على أن يقدّمه في أقرب وقت لتقع المصادقة عليه من الإدارة و يشرع في العمل به في السنة المدرسية الموالية، و طلب محمد الخمّاسي إبداء ملاحظات فيما يخص البرنامج. وقرأ الكاتب العام البرنامج الذي سطّروه واتفقوا على التعديلات الواجب إدخالها على محتوى كل مادة والزمن المخصص لها حسب خصوصيات كل فصل. وعلى سبيل الذكر اتفقوا أن تكون أغلب القصائد في مادة المحفوظات وطنية، ولشدة تمسكهم بهذا المطلب وافقت سلطة المستعمر على ذلك، فأملت عليها النقابة مجموعة من القصائد تم إدراجها بالبرنامج الرسمي. وبنفس النجاح اقترح المعلمون التحويرات في برامج المواد التي تدرس، واقتلعوا موافقة السلطة.

تبيّن وأنّ نقابة المعلّمين التّونسيين للتّعليم العربي لم تبق مكتوفة الأيدي بمجرّد صدور الأمر العلّي الذي سوّى معلّمي اللّغة العربيّة بمعلّمي الفرنسيّة بل واصلت اهتمامها بمشاكل منظوريها، وتمثّل ذلك في متابعة مدى تطبيق الأمر المشار إليه وما اقترحته من إصلاح لبرامج التّعليم ومسائل قطاعية أخرى لا تقلّ أهمّيّة عنها، وظهر ذلك من خلال وثيقة أرشيفية عثرنا عليها في أرشيف النّقابة العامّة للتعليم الأساسي بتونس([9]).

هي عبارة عن محضر جلسة المجلس النقابي، إذ اشتملت على محاور اهتمام مبوبة كما يلي:

1ـ مطالبة الإدارة بتطبيق جميع التّراتيب على حدّ السّواء بين المعلمين التونسيين والمعلمين الفرنسيين.

2ـ النظر في تشكيل لجنة عقاب لرفت من أراد الإضرار بالنقابة.

3ـ تطبيق البرنامج الجديد.

4ـ إعادة النظر في تغيير اسم النقابة.

5ـ ضبط الحالة المالية.

وأثيرت في المجلس متفرقات أخرى منها مسألة لجنة إصلاح الترشيح، حيث لاحظ الرئيس أنه يجب التّرفيع في مستوى التّعليم الفرنسي، و تقديم منحة خاصة لمن يقوم بتعليم اللسان الدارج )اللغة العامية( بالمكاتب الفرنسية مع إبقاء تمتّعاته المكتسبة.

كما تناول المجلس مسألة مشاركة معلمي اللغتين في المراكز الخاصة بالزيتونيين، فأجاب الكاتب العام أنه وقع العدول عن المطالبة بذلك، و تعرض محمد قاسم إلى عدم وجود محلات سكنى لمعلمي العربية بعدة مراكز بجربة، فأخذ الكاتب العام مذكّرة في ذلك ووعد بعرضها على الإدارة، كما طلب منه مراجعة قائمة منح السكنى باختلاف المراكز، فأجابه بأنّه عرض المسألة بمعيّة نقابة التعليم اللاّئكي و أن الإدارة بصدد القيام بما يجب في هاته المسألة.

الخاتمة

في النهاية نقول إن المعلمين التونسيين زمن الاستعمار تركوا بصمة عميقة في تاريخ تونس المعاصر، تجلت من خلال شعورهم بضرورة الدفاع عن وطنهم ولغتهم وقطاعهم، فأسسوا "الجمعية الودادية لمعلمي اللغة العربية" ثم " نقابة المعلمين التونسيين للتعليم العربي العمومي"، ثم " النقابة التونسية للتعليم العمومي". واتسمت كل مرحلة بمحطات نضالية برهنوا خلالها عن قدرتهم على تغيير مسار قطاعهم وتكسير المخطط الاستعماري في التربية والتعليم، وذلك بفرضهم لبرنامج إصلاحي للتعليم أقرته الإدارة الفرنسية بتونس، دافعوا من خلاله باستماتة على اللغة العربية وعن أوضاعهم المادية والأدبية.

وهنا أقول مرة أخرى فلينظر نقابيو رجال التعليم ما أقدم عليه زملاؤنا وحققوه في عهد الاستعمار، وكيف عالجوا الموضوع الذي التقينا اليوم من أجله، وإلى أي مدى اتسعت رقعة مطالبهم وتنوعت، حيث كانت تتجاوز بكثير مجال اهتمامنا اليوم، كالبرامج الرسمية وتوزيع التوقيت بين مواد التدريس وفضاءات العمل وكيفية انتداب المعلمين وتكوينهم الخ. فما نصبو إليه اليوم بصراحة إن تشاطروني الرأي هو جعل العمل النقابي هادفا نحو تحسين كل ما له صلة بهمتنا كمربين، من برامج وأدوات عمل وظروفه وظروف المعلم والتلاميذ، فلنقتد بالشعار الذي رفعه زملاؤنا سنة 1927 بأن " لا إصلاح للتعليم إلا بإصلاح حال المعلم"، ومن هنا تتبرر مشروعية إدماج هذه المداخلة في برنامج هذه الندوة، فالأمة بتاريخها ونقابتكم ضاربة في تاريخ تونس. واسمحوا لي إن أطلت عليكم وشكرا.

مداخلة الباحث : مسعود فيلالي

التوجهات التربوية ما بعد 56 من خلال الإصلاحات الكبرى والكتاب المدرسي

تقديم: التربية بين التطبيع الاجتماعي والصراع.

يؤكد المنظور والسوسيولوجي على اعتبار التربية في بناها ومضامينها أداة للتطبيع الاجتماعي الذي تمارسه على المتلقي الناشئ محاولة تشريبه قيم ومثل ومعايير ومعتقدات المجتمع الذي ينتمي إليه أي ثقافته السائدة ومن ثم كان اهتمام الطبقات المهيمنة في أي مجتمع بالمدرسة ومحاولة احتواءها وتدجينها شكلا ومحتوى ،وبالنتيجة كثيرا ما تغدو الكتب المدرسية والأنشطة التعليمية والثقافية المرتبطة بها مجالات خصبة لممارسة عمليات واسعة من الترويض الذهني والأخلاقي السلوكي .يتمّ عبرها تمرير الإيديولوجية المهيمنة للنظام القائم بهدف إدامته وإبقائه .

وهكذا فإن الدولة في احتواءها بل واحتكارها للنظام التربوي تحاول أن تظهر بشتى الوسائل مصالح وتوجهات فئوية معينة على أنها مصالح وتوجهات عامة وطنية مشتركة شمولية طبيعية معقولة الأمر الذي يؤكده التحليل التاريخي بحسب " دوركهايم في قراءة لـمحمد الشرقاوي من خلال مقاله بعنوان " التطبيع الإجتماعي والصراع " النظم التربوية وتاريخها كما يراها دوركهايم –مجلة العرب والفكر العالمي- العدد التاسع شتاء 1990 . إذ يتبين أن السمة الأساسية للنظم التربوية بحسب دوركهايم هي أنها من وسائل الصراع بين الجماعات السياسية المسيطرة تزامنا في المجتعات التعددية (و خطيا في المجتمعات التوتاليتارية ) إذ أن كل نظام تربوي هو مؤسسة اجتماعية يعود أمر تأسيسها واستمرارها ومحتواها وشكلها الى البنية الإجتماعية والسياسية وثانيا أنّ هدف هذا النظام هو التطبيع الإجتماعي التي تحدّد خصوصياته هو أيضا بالعودة الى البنية الإجتماعية وثالثا محدّدات النظام التربوي هذه ليست كلية بمعنى أنه يتمتع ببعض الإستقلالية النسبية (وهي نافذة يعتبرها البعض فرصة لقلب المعادلة : تاثير التربوي على السياسي ، سواء من خلال تفاعل المتلقي النوعي ببعض المضامين التي قد تكون لديه حسّا أو وعيا نقديا أو من خلال الوسطاء أي المدرسين الذين ليسوا بالضرورة في خدمة إيديولوجيا المهيمن.ورابعا أداة للصراع الإيديولوجي التي يمكن أن تقاس فاعليتها وأن توضع تحت الإختبار وفقا للمراحل التاريخية المختلفة .

فجوهر التربية إذا هو " التطبيع الإجتماعي المنهجي بمعنى أنها تعمل على إحداث تغير شامل وعميق عند الفرد يحول بالنتيجة نظرته الى العالم بشكل جذري ليستمر معه طول حياته . فالتربية لا تقتصر على تعليم بسيط لمجموعة من المعارف والأساليب التي يمكن استخدامها فيما بعد في مزاولة مهنة ما بل هي أبعد من ذلك بكثير ، إنها عملية تحويل حقيقية وهذا التحويل يحصل نتيجة للتأثير المستمر الذي يتلقاه من مختلف السلطات الاجتماعية ومنها المدرسة ،فالتطبيع الإجتماعي هو ترسيخ نسق من الأفكار والمعتقدات والممارسات أو تقاليد الفاعل المهيمن وباختصار هو ترسيخ للإيديولوجيا .

لكن الخطاب التربوي يقدم نفسه كخطاب حول المعرفة والعلم والقيم والأخلاق بشكل تعميمي رغبة من مرسليه في إظهاره بريئا ومحايدا فهو يقدم القيم والمعارف والمصالح كما لو كانت ذات طابع إنساني عام وهكذا يتستر بهذا التعميم على الإحالة الى أيّ سلطة خارجة عنه هي مصدر تصوراته وتوجهه إذ هو يعرض نفسه ليلقن كمعطيات جاهزة في ذاتها ولذاتها ، والواقع أنه يتضمن مرجعية مزدوجة ،مرجعية ظاهرة معلنة وهي التعليم والتكوين ونشر المعارف والإعداد للحياة العامة ومرجعية ضمنية مسكوت عنها وهي المتعلقة بحقيقة أنه خطاب الفاعل المهيمن. و في هذا السياق تأتي أطروحات (بياربورديو وباسرون ) لتأكد أنّ النظام التربوي لا يسهم فقط في إعادة أنتاج التراث الثقافي بل يسهم أيضا في إعادة الإنتاج على مستوى المجتمع ، إنه العنف الرمزي أو التحكم الثقافي الذي تمارسه الفئات المهيمنة إجتماعيا وثقافيا على ميدان التربية والتعليم لضمان مشروعية النظام السائد وتأييده ليمتدّ مفعوله الى الإسهام في انتاج وإعادة انتاج العلاقات والمراتبيات الاجتماعية المتنفذة نفسها.

ونتيجة لما تقدم أ لا تصبح الإصلاحات مجرد ألعاب يجدد بها النظام ذاته على حدّ عبارة CROSIER في كتابهL’ACTEUR ET LE SYSTEME.

إشكاليات البحث :

·التوجهات : المعنى والدلالة :

لعلّ مصطلح التوجهات يحيل الى الأفكار ، التصورات ،الاراء التي قد لا تمثل نسقا متكاملا . قد تمثل إيديولوجيا مفككة على حدّ عبارة "مصطفى محسن "الباحث المغربي أو شبه فلسفة على حدّ عبارة " ميشال فوكو " في كتابه حفريات المعرفة في الفصل الذي يتناول تاريخ الأفكار هذا المبحث الذي موضوعه هذا الشتات من التصورات والآراء في اتصالها وانفصالها في انسجامها وتوترها في علاقتها بالبدايات وبالنهايات. (شبه الفلسفة هذه التي تعتمد اللغات العائمة والموضوعات الفكرية غير المترابطة إذ أن تحليلها قد يكون تحليلا للأخطاء اكثر منه تحليلا للحقيقة ،تحليلا لا لأشكال التفكير بل لأنواع العقليات مما يفترض تداخل المناهج والطرق.

والأخطر أن هذه التوجهات والتي ما استكملت ولن تستكمل شروط بنائها وتنظيمها وتناسقها بشكل فعال ومؤثر تحاول الدولة العالمثالثية ومنها الدول العربية البعيدة عن المجتمع المستبعدة إياه تمريرها عبر النظام التربوي مما ستكون له أثار خطيرة تربويا وسيكولوجيا على مستهلكيها (المتعلمين).

من هنا كان من المجدي مباشرة التحليل السوسيوتاريخي والسوسيوثقافي لمضامين الخطاب التربوي في تونس منذ الاستقلال والذي كان في أغلبه تبريريا وداعما للخطاب الرسمي الباحث دوما عن المشروعية الابستمولوجية ولذلك اقتصرت الأدبيات التربوية على الدراسات التعلمية أو الإحصائية الفنية وغابت الدراسات التحليلية النقدية الكفيلة وحدها بأن تضع الجهاز النظري الذي يحكم المسألة الثقافية في تونس ومن ضمنها المسألة التربوية موضع سؤال ولم تظهر بوادر هذه الكتابات إلا بعد زوال البورقيبية رمزا قدرا وواقعا من خلال بعض الطروحات التي ستتناول تاريخ الحركة الوطنية وأصبح الحديث ممكنا عن أزمة تدريس التاريخ في الفترة البورقيبية ووضعت المبادىء الكبرى التي تمثّل مقومات الجهاز النظري لهذه الفترة تحت مجهر القراءة النقدية مثل مساءلة مفاهيم الأمة ،القومية ، والشخصية التونسية ولعل لهذه الأسباب يذهب محمد عابد الجابري في مقارنته بين وضع التعليم في المغرب ووضعه في تونس بالقول: "ليست المدرسة وحدها هي التي تصنع المستوى بل يصنعه أيضا الجو الثقافي العام وما يتوفر فيه من فرص الحوار" وهكذا فالنهضة الثقافية التي تميّز المغرب الأقصى حاليا... لا ترجع فقط في نظرنا إلى الطابع الانتقائي لنظام التعليم القائم فيه من حيث يبلغ التشدّد مداه في الاختبارات والامتحانات في جميع مراحل التعليم بقدر ما ترجع إلى استقلال الحقل الثقافي عن السلطة استقلالا واسعا في المغرب كانت الثقافة دوما ثقافة معارضة أعني أن رجالها طلابا وأساتذة وكتابا ومبدعين يتحركون بصورة من الصور من موقع المعارضة والنقد. أما الميدان الرسمي فالمثقفون فيه موظفون أو تقنيون نادرا ما يتكلمون أو يكتبون فالإشعاع الثقافي في المغرب تقع بؤرته خارج مجال السلطة الرسمية. وهذه الظاهرة جزء من الظاهرة العامة التي تطبع الحياة في المغرب . ظاهرة التعددية الحزبية والنقابية وما يؤسس ذلك منه فترة الكفاح الوطني من اجل الاستقلال.

القســـم الأول:

مدخل: مفهوم الإصلاح

يذهب حسن حسين البيبلاوي في كتاربه "سوسيولوجيا الإصلاح التربوي" إل أنه مصطلح شائع في الأوساط التربوية ويشير عادة إلى عملية التغيير في النظام التعليمي أو في جزء منه نحو الأحسن وغالبا ما يتضمّن هذا المصطلح معان اجتماعية واقتصادية وسياسية بل إن بعض علماء اجتماع التربية يعرفون معنى الاصلاح التربوي الحقيقي بذلك الاصلاح الذي يتضمن عمليات تغيير سياسية واقتصادية ذات تأثير على إعادة توزيع مصادر القوة والثروة في المجتمع ويختلف عن مفهوم التجديد التربوي إذن هو التغيير الشامل في بنية النظام التربوي على المستوى الكبير Macrolevel أو بعبارة اخرى تلك التعديلات الشاملة الأساسية للسياسة التعليمية التي تؤدي إلى تغيرات في المحتوى والفرصة التعليمية والبنية الاجتماعية أو في أي منها كما يعتقد بعض الصحاب المدرسة الوظيفية البنيوية في علم اجتماع التربية. أن الاصلاح التربوي إنما يحدث بتغير نوع الطلب على التعليم.

وإن كان البيلاوي لا يفصل بين الاصلاح والتغيير فإن الباحث شكري مامي في أطروحته تعمق في البحث بعنوان "سوسيولوجيا الاصلاح التربوي في التعليم الأساسي" إشراف الدكتورة درة محفوظ كلية العلوم الانسانية والاجتماعية بتونس 1993، يفصل بين مفهوم الاصلاح والتغيير.

إذ يعتبر أن الإصلاح يتطلب استعدادا وتخطيطا واختيار برنامج مدقق يتم توظيفه وفق إطار قانوني وإداري بغية تحقيق أهداف مرسومة مسبقا. أما التغيير فهو وليد الحركة المستمرة للبنى الاجتماعية والثقافية ولا يتعلق فقط بارادة طرف واحد واختيار او رغبة معينة أو تشريع من قبل الدولة.

ويتعلق الإصلاح دوما ببرامج النخب مع أن مضمونه قد يمتد إلى البنى الثقافية والاجتماعية ويدفع بها نحو التحول والتغير وقد لا يتجاوز بعض الجزئيات البسيطة بعبارة أخرى فإنّ الإصلاح إما أن يكون مواكبا للتغيير أن دافعا من دوافعه او معرقلا لمسيرته.

وبهذا المعنى يكون الإصلاح هو فعل الأطراف المهيمنة أي القادرة على توجيه مسار التغيير الاجتماعي والتي تمتلك شرعية التدخل والتوجيه فيقترن الإصلاح بأهداف الفاعل المهيمن ومصالحه سواء في الحفاظ على توازن البنى الاجتماعية أو اجتناب حالات التوتر والتصدع وذلك بإدخال بعض التحويرات داخل البنى الاجتماعية والثقافية إذ يهدف الإصلاح بهذا المعنى إلى التغيير لكن في حدود التوازن والمحافظة على مواقع القوة الاجتماعية المهيمنة أو بحثا عن حلول للحد من الأزمات الهيكلية الممتدة إلى مختلف بنى المجتمع.

·ثقافة المطالبة بالإصلاح في ظل الاستعمار:

يؤكد محمد عابد الجابري أن ثقافة المطالبة والإصلاح في تونس في الفترة الاستعمارية كانت اشدّ وضوحا منها في عهد الاستقلال ذلك أن هذه الثقافة بدأت سنة 1907 في شكل عرائض وإضرابات من أجل المساواة في الحصول على المعرفة بين التونسيين وأبناء المستعمر وقد اضطرت السلطات الاستعمارية إلى تكوين لجان إصلاح بفعل هذه الضغوط وتقدّم الاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1946 ببرنامج عام للإصلاح التعليمي قوامه الرفع من حصص اللغة العربية والتنصيص على تدريس العلوم.

وفي مارس 1946 قدّمت الجامعة الوطنية للتعليم التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل برنامجا مطورا لإصلاح التعليم الابتدائي والثانوي وأحد أهم مطالبه تدريس الرياضيات بالعربية وهكذا توالت المطالبة الشعبية بإصلاح التعليم مما اضطرت معه السلطات الفرنسية إلى وضع مخطط عشريني لإصلاح التعليم في تونس مخطط يمتد من 1949 إلى 1969.

ومع ان الاستقلال كان سنة 1956 فإن السنوات الثلاث الأولى كانت عبارة عن فترة انتقالية تكرّس الاستمرارية إذ كان العمل الحكومي من خلال السنوات( 1956 و 1958 )

يتحرك ضمن إصلاح 1949.

ولذلك نجد أن أول كتاب في التاريخ للتعليم الابتدائي يتم العمل به سنة 1960 من تأليف الثنائي عثمان حويمدي أبوالقاسم كرو الجزء الأول للسنة الخامسة، الجزء الثاني للسنة السادسة، هذا الكتاب الذي تتصدره صورة الرئيس بورقيبة قبل المقدمة.

2- المبادئ العامة لإصلاح 1958 أو الجهاز النظري لدولة بورقيبة:

يرد في الفصل الأول التربية والتعليم يهدفان إلى الأغراض الجوهرية الآتية:

1-تزكية الشخصية وتنمية المواهب الطبيعية عند جميع الأطفال بدون تمييز بينهم باعتبار جنسي أو ديني أو اجتماعي.

2- المساعدة على تنمية الثقافة القومية وتحقيق ازدهارها.

3- إعداد الطفل للقيام بدوره كمواطن و كإنسان وتكوين الإطارات الصالحة الكفيلة بنحو النشاط القومي على مختلف وجوهه وفي جميع الميادين.

يتحرك الجهاز النظري إذا جاز التعبير ضمن هذه الأقسام الثلاثة التي تبغى التجانس الشخصية/ القومية/ الأمة.

الأمر الذي سيحضر بجلاء في أغلب مقدمات البرامج الرسمية والكتب المدرسية فإذا اعتمدنا عينة من البرامج الرسمية لفترة متقدمة نسبيا في المرحلة البورقيبية في نهاية السبعينات حيث أصبحت تتشكّل معالم شبه فلسفة نلحظ مثلا تردد مصطلح القومية (11 مرة) وتعدد ارتباطاته المؤسسات القومية، والوحدة القومية، المجموعة القومية، الواقع القومي، الأعياد القومية، ترسيخ الأعياد بالقومية، المواطن القومي ، الهويات القومية الأخرى يتعلق الأمر بالصفحة (63-64-65) البرامج الرسمية سنة (78-79). أهداف التربية المدنية والوطنية:

يذهب الدكتور عبد الباقي الهرماسي في تقديمه لعمل بعنوان "هل نحن أمة" لصاحبه المهدي مبروك. "لقد ارتبط المنهج التحديثي التونسي وخصوصا مع الدولة الوطنية بنظرة إيديولوجية أو مدرسة حاولت نسج حقلها المفاهيمي الخاص بالاستناد إلى قراءة في التاريخ والمجتمع يعطي الشرعية للقول بأمة تونسية وشخصية تونسية وكأنها ظواهر منفصلة عن إطارها الثقافي وفضائها الديني الجيوسياسي وكانت هذه العملية تقصد بالأساس إلى تكثيف مصادر الشرعية والاستحواذ على الولاء ولهذه الأسباب كان تنظير النخبة آنذاك ضربا من التدبير والإجراء والتبرير الذي يصل في بعض الأحيان إلى التعسف والمغالطةالمتلحفة بإرادة إيديولوجية واضحة (....) ولقد تبيّن افتقاد مثل هذه الكتابات (......) للكثير من مقتضيات الموضوعية العلمية فإذا صحّ أن يجوز الحديث اليوم كما بالماضي عن أمة اسلامية أو امة عربية فإنّ الحديث عن الأمة التونسية واليوم فاقدا لا للمبرّر النظري والعلمي فحسب بل للمنهج التاريخي والاجتماعي.

القسم الثاني

· درس التعاضد بين : التربية الدينية والوطنية

وبين الظهور والاختفاء:

كما يبدو من عنوان البرامج الرسمية لسنة 1958 – السفر السادس التربية الأخلاقية والاجتماعية وكذلك الطبعة المنقحة لسنة 1973 فإن التربية الأخلاقية تبدو المجال الذي تنضوي تحته جميع التعلمات الأخرى: القرآن والأخلاق والعبادات والتاريخ والتربية المدنية وهو ما ناقشته وأقرّته لجنة الدراسات الاشتراكية في جلساتها من فيفري إلى جويلية 1967 (وثيقة لم تنشر) برئاسة أحمد بن صالح حيث يتفق مع محمود المسعدي على ضرورة إدماج التربية الوطنية والأخلاقية ضمن التربية الاجتماعية التي تجمع بين الدين والأخلاق والوطن بل يجب أن يمتد التكوين الديني والأخلاقي والوطني إلى كل مناسبة حتى في الدروس العملية إذ تمثل الشخصية وحدة لا ينبغي تفكيكها.

ولعل إدارج درس التعاضد ضمن موضوعات مادة التربية الدينية تجسيما لهذا التوجه إذ يتضمن كتاب المعلم تأليف أحمد بن عامر والمعنون بدروس الدين والتربية للسنة الثالثة ابتدائية ص 108 – درسا بعنوان التعاون والتعاضد – منشورات مكتبة المنار، ط 1، 1964. مبرزا الحاجة إلى التعاون في النطاق العائلي والمدرسي والمجتمعي ويرد ما يلي:

والتعاضدية شركة يتكون رأسمالها من مساهمات أصحابها ويتعاونون داخلها على القيام بنشاط معيّن يعجز الواحد منهم منفردا عن القيام به. وبفضلها يتكتلون ويتضامنون مع بعضهم فيكونون قوة ترجع فائدتها عليهم، إذ تنمو مداخيلهم فيهنأ عيشهم وتهذّب أخلاقهم ويصبح كل منهم يصبح كل مفهم يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه وتزداد قيمتهم الاجتماعية بارتفاع مستوى تفكيرهم واتساع نطاق تعاونهم فيتضامنون مع مواطنيهم ويتظافرون معهم للمساهمة في تربية أولادهم.

الخلاصة:

يجب على أفراد الأسرة أن يتعاونوا ويساعدوا بعضهم بعضا وعلى التلاميذ أن يتدربوا على التعاون في المدرسة كي يعتادوه عندما يدخلون معترك الحياة وعلى المواطنين أن يتعاونوا في حياتهم الاجتماعية، سواءا داخل التعاضديات أو خارجها حتى يصبح كل منهم يحب لأخيه ما يحبّ لنفسه.

أما في كتاب المعلومات الأساسية في التربية المدنية، كتاب العلم للمؤلف الطيب بن جمعة نشر وتوزيع مكتبة النجاح ، تونس فيغطى دروس التعاضد 6 صفحات من 128 إلى 133 : بعنوان - التعاضد وأهميته :

1- تعاضديات الأنتاج

2 - تعاضديات الاستهلاك

3- التعاضديات الأخرى

ويرد في البرامج الرسمية لسنة 1958 كامتداد لدرس التضامن والتعاون( المنظمات التعاونية والتعاضدية ) ليستحيل في البرامج الرسمية المنقحة لسنة 1973 درسا قائم الذات ص 15 ليحذف من البرامج الرسمية طبعة 78-79.

·التعريب بؤرة للصراعات:

إنّ حضور موضوعة التعاضد واختفاءها من البرامج والكتب المدرسية تبعا لاختفاء رمزها لشبيه بالتجاذبات التي شهدتها مسألة التعريب أو ازدواجية اللغة والثقافة التي أبقت على الأزمة..مفتوحة إلى عهد ليس بالبعيد فها هو محمد مزالي في رسالته المفتوحة إلى بورقيبة نشر مركز الأهرام للترجمة والنشر القاهرة، يقرّ بعمق هذه المسألة والشرخ الذي أحدثته في صلب ذهنية النخبة الحاكمة إذ يورد قائلا "وأشهد أن المسعدي تآمر على المرحوم الأمين الشابي الذي كان يؤمن بضرورة مواصلة تعريب التعليم سنة بعد سنة ولو قدّر لأول وزير التربية في حكومة الاستقلال أن يواصل برنامجه المستوحي من القيم العليا والوفاء لمقومات تونس العربية، لما أفرزت سياسة بورقيبة والمسعدي بعض الشباب المنبثّ الذي يتكلم خليطا من العربية و الفرنسية من دون أن يدري ما هي لغته؟

ويذهب محمد عابد الجابري إلى أن التعريب في المغرب مثلا شقّ طريقه دون صراع لخضوعه لسياسة عربية للدولة أما في تونس والجزائر فالأمر يختلف. فالصراع بين المعربيين والمفرنسين قد انتهى في تونس قبل الاستقلال بسنوات إلى صراع عنيف تطور فيما بعد إلى صراع مسلح حينما انحاز صالح بن يوسف منافس بورقيبة على الزعامة إلى التيار القوي العربي بزعامة جمال عبد الناصر. لقد كان ردّ فعل النخبة المفرنسة بزعامة بورقيبة هوالاعراض عن المشرق والاتجاه الكلي إلى الغرب وبالتالي توحيد التعليم في إطار الازدواجية. وهكذا اقترن التعريب بارتباط سياسي غير مرغوب فيه من طرف النخبة الحاكمة بينما ارتبطت الازدواجية باختيار الاتجاه نحو فرنسا والغرب اختيارا صريحا معلنا، ولم يتغير الموقف قليلا إلا عندما أصبح "محمد مزالي" وهو من المعربين وزيرا أول وخليفة لبورقيبة علما وأنه لم يوضع في هذا المنصب إلاّ لأن تونس كانت انذاك أي اواخ السبعينات في حاجة الى مساعدة الدول النفطية العربية فاجتمعت الميول العربية التي يحملها مزالي والحاجة الاقتصادية إلى المشرق العربي و شرع في تعريب التعليم الابتدائي أي تدريس الرياضيات والعلوم فيه بالعربية بدل الفرنسية .إن مثل هكذا وقائع لتؤكد فعالية وتأثير العوامل الخارجية من اقتصادية واستراتيجية على النظام التربوي أهدافا ومسارات ومحتويات التي تفوق. فعالية وتأثير العوامل الداخلية الحيوية الخاصة بالنظام مع ما.يرافق ذلك من انفعالية وحسابات ضيقة من خلال ربط نجاح المنظومة أو فشلها بهذا الشخص. أو ذاك الأمر الذي يفسر غياب ثقافة المؤسسة في العالم العربي المؤسسة الكفيلة وحدها باتخاذ القرارات المصيرية على أسس وعقلانية تشرعها الدراسات المتأنية والحيادية

أزمة تدريس التاريخ بين إصلاحي 58 و 91

بين المعرفة والسلطة بين الموضوعية والتحكم في الماضي تتنزل أزمة تدريس التاريخ ليستحيل إلى تاريخ _ خيال Histoire Fiction و تاريخ _ رغبة Histoire désir ولتكون دروس التاريخ للسنة الخامسة والسادسة الابتدائي محاولات لترسيخ مفهوم الأمة التونسية التي اكتمل كيانها بفضل الزعيم بورقيبة أثناء الاستقلال كما صدر في كتاب البشير بن سلامة شخصيتنا التونسية فمسار الشعب من اللوبيين والبربر إلى منتصف القرن العشرين هو مسار تحقيق دولة بورقيبة أو الدولة –الأمة- كما يؤكد الخطاب الرسمي و كما يؤكد البشير بن سلامة: " لقد بينا أن هذا الشعب قد ارتقى بفضل صموده و تضامنه طيلة الدهور إلى مرتبة الأمة و أنه قد اكتسب الطابع الخاص الذي يميزه عن الأمم العربية التي تجمع بينها الحضارة العربية الإسلامية و بينا أن الميدان الثقافي هو أقرب الأمور التي يمكن أن تعبر عن الشخصية التونسية".

بسبب هذه المزاعم تستحيل مادة التاريخ إلى مجرد قناة لتمرير هذه الاسقاطات و إذا خصصت لحنبعل صفحة واحدة عدد 14 في "فصول في تاريخ تونس للسنة السادسة من التعليم الابتدائي" نشرة 1967 فإن بورقيبة ستخصص له إحدى و ثلاثون صفحة و سبعة عشر صورة.

و يفسر البشير اليزيدي ضمن مقال له بعنوان الرهانات السياسية و برامج التاريخ ضمن منتدى نور الدين صريب حول الإصلاح التربوي –جرجيس 2004- هذه المفارقات بأن بلدا حديث العهد بالاستقلال لابد و أن يبحث عن تركيز و دعم مؤسساته و اكسابها الشرعية اللازمة و ليس أفضل من علم التاريخ للمساهمة في هذا المجهود وتوظيف برامجه لهذا الغرض.

لذا فإن تاريخ الحركة الوطنية مثلما يقدم للتلاميذ يدور في مجمله حول الحزب الحر الدستوري و زعيمه الحبيب بورقيبة و لم يعط هذا التوجه الرسمي في تدريس التاريخ الاهتمام و المكانة اللازمة للقوى و التنظيمات الوطنية الأخرى التي ساهمت كذلك في معركة التحرر الوطني و لكنها لم تفلح في الحصول على مناصب في السلطة عند الاستقلال فوقع إما تغييبها في البرامج أو تقزيم دورها فكان التاريخ الرسمي تاريخ المنتصرين.

و بالنتيجة كانت الكتب المدرسية تعكس هذا التوجه إذ يقع تكليف المدرسين تحت إشراف المتفقد بإعداد بعض الكتب و هي مؤلفات تستجيب لتوجهات تتجاوز المؤلف و لبرمجة مدروسة في أطر و هياكل خارجة عن نطاقه فيصبح الجمهور المدرسي مستهلكا لمادة جاهزة ترتكز على التاريخ السياسي الذي يبرز خيارا سياسيا و يعطي هذا الخيار مكانة متميزة لشرعنة السلطة و شخصنة هذه السلطة التي تنعكس في السياسة التعليمية و في البرامج المدرسية.

بل لقد أسست هذه المرحلة بحسب ادريس عباسي في مقال له بعنوان Le Discours historique scolaire des années quatre vingt dix en Tunisie- l’invention d’une identité méditerranéenne- dans annuaire de lafrique de nord- édition CNRS Paris 2000-2001 قطيعة مع التاريخ العالمي بل مع المغرب المجاور وكذلك المشرق، حركة الاستبعاد هذه لا تستجيب إلا لحيز من التواصل مع التاريخ الشخصي لبورقيبة و للذاتية القومية و يضيف أن النماذج البورقيبية فرضت على التونسيين من خلال قوة الصورة و الخطاب مما أدى إلى نتائج عكسية، توترات مستترة ظلت تعتمل بالبلد لتشكل أزمة مفتوحة تتمثل في غلبة الطابع القومي بالمفهوم القطري الايدولوجي الأمر الذي لا شك لا يتماشى مع الذاكرة الجمعية فخلق مفارقات جمة جعل التونسيين يطرحون بحدة سؤال الهوية فمرد أزمة التاريخ تحديدا إلى أن بورقيبة نجح في إنشاء تاريخ حوله من خلال محو الذاكرة الجمعية و إقصاء منافسيه بل رفاقه ليصبح هو معيار الدولة -الأمة.

و بالنتيجة لا غرابة أن يمثل إصلاح التعليم جزءا رئيسيا من التوجه الجديد للسياسة الاجتماعية و الثقافية فمنذ التغيير الذي حصل سنة 1987 بدأ التوجه نحو إعادة كتابة تاريخ الحركة الوطنية و لكن البرمجة الجديدة و إن قضت على ذلك الجانب الممجد و المبالغ في ذكر مآثر الحزب الدستوري و الزعيم بورقيبة تغافلت عن رد الاعتبار كما يلزم إلى الزعماء الآخرين كالشيخ عبد العزيز الثعالبي و الزعيم صالح بن يوسف، كما أن العديد من التنظيمات السياسية التي لعبت دورا هاما في الفترة الاستعمارية و شاركت في الذود عن الوطن و الهوية ظل تهميشها متواصلا في البرامج الجديدة و نذكر في هذا الصدد على سبيل المثال "الزيتونيين" و "الشيوعيين"، أما العنصر الآخر الذي لم ينل حظه في البرامج و الكتب فيخص رجال المقاومة الشعبية الذين تنعتهم فرنسا بالفلاقة و الذين شنوا ضدها حربا ضروسا و ضحوا بحياتهم و أرواحهم من أجل طرد المحتل.

و المطلع على الشهادات الشفوية الموثقة بالمعهد الأعلى للحركة الوطنية التي جمعتها وحدة التاريخ الشفوي من خلال الاتصال بالذين مازالوا على قيد الحياة، تكشف أن ثمة تاريخ آخر تم السكوت عنه لفائدة هذا التاريخ المبرمج الذي لا يزال رهين السياسة و لا غرابة أن نجد الدرس الثالث و الثلاثين بعنوان "الكفاح المسلح" ضمن كتاب التاريخ للسنة السادسة من التعليم الأساسي - دليل المعلم – ص 107 يبدأ بحدث اعتقال الزعماء السياسيين و خاصة بورقيبة في 18 جانفي 1952 و يعتمد لغة عائمة دون ذكر الأسماء أو الجهات مثل "المقاومة الشعبية"، "حركة الثوار" حيث يستخلص أن لا علاقة بين عنوان الدرس و محتواه.

إصلاح 91 - الإطار التاريخي و النظري

يرد في الفصل 6 "تمكين المتعلمين من حقهم في بناء شخصيتهم و مساعدتهم على قيم التسامح و الاعتدال"

انه إصلاح تزامنت الحاجة إليه بحسب "إدريس عباسي" في المقال المذكور مع حالة الصراع التي طبعت المسرح السياسي التونسي بين السلطة و الإسلاميين، فشخصية وزير التربية الجديد (1989 – 1994) هي في قلب هذا الصراع، هذا الأخير الذي لم يخف معادته للأصولية إذ أن مشاريعه الإصلاحية قد تتوافق مع الرؤية البورقيبية للإسلام و كيفة التعامل معه.

فعلى الوزير المهدد في شخصه أن يحتمي بالأوساط العلمانية و بالرأي العام الدولي.

و قد تطلب هذا الإصلاح عامين كاملين وهو نتيجة لعمل اربعة عشرة لجنة مختصة .

ان الأساس الايدولوجي لهذا الإصلاح يمنح المدرسة وظيفة سياسية في اطار الصراع ضد التطرف على حد عبارة صاحب المقال ولذلك نجد الفصول المتعلقة بالمبادئ تستخدم لغة يغلب عليها الطابع الديبلوماسي اذ تتحدث عن الانتماء الحضاري وطنيا ومغاربيا وعربيا وإسلاميا مع التفتح عن الحداثة والحضارة الانسانية وتتحدث عن اللغة العربية كلغة وطنية وهي بذلك تحاول النأي عن مفاهيم اصلاح 58 وفي نفس الان توظيف مفاهيم تهفو الى التجانس وفي إطار الصراع السياسي الذي يطبع المرحلة .

القسم الثالث:

إصلاح 2002 :المتوسطية – الكونية-هل هي معالم هوية جديدة؟

المتوسطية، الكونية، مجتمع المعرفة : ثلاث مصطلحات تتواتر من خلال الخطاب الرسمي لتمتد الى الخطاب التربوي وهو ما يطرح مسالة الهوية الحقيقية للنظام التربوي الراهن ونوعية المقاربة التي يعتمدها .

يذكر احمد شبشوب في كتابه مقاربات جديدة للتربية صفحة24 " لقد تعددت التجارب المتعلقة بتجويد الأنظمة التربوية داخل البلدان الانجلوسكسونية وبلجيكا بالأساس ، تجربة المدارس العمومية بالولايات المتحدة ، تجربة مدبنة رامستايت بالمملكة المتحدة ، تجربة الكفايات الأساسية بلجيكيا ، تجربة مشروع المدرسة بفرنسا . ومنذ الثمانينات ، تجربة الكفايات بتونس تدخل في هذا الإطار العالمي .

ويبرر ذلك بالقول أن الكفايات تعتمد على نظر جديدة إلى المناهج المدرسية بتأكيدها على بناء الكفايات و تطويرها لا على تراكم المعارف و تجميعها و هو حال البيداغوجيا التقليدية التي تؤكد على المعارف و طريقة تعلّمها و تعليمها.

و ثاني خصائص بيداغوجيا الكفايات تطوير المراقي العليا مثل التحليل و التأليف و حل المسائل و ليس على المراقي الدنيا : الفهم، التذكر، التطبيق.

و ثالث خصائص هذه المقاربة هي نظرة جديدة للتقييم المدرسي تؤكد ادماجه في صلب عمليات التعلم و التعليم وجعله تقييميا تكوينيا بالأساس، مع التأكيد على التقييم المعياري بعيدا عن التقييم الانطباعي.

و مهما كانت الخصائص فإن إقرار أحمد شبشوب بأن هذه التجربة تم استيرادها كما تستورد المعدات التكنولوجيا لهو إقرار بأن نظامنا التربوي لم ينجح منذ نصف قرن في إنشاء عقول مفكرة مبدعة قادرة على التفاعل الايجابي مع واقعها فهما و تشخيصا و انتاجا للحلول أو النظريات.

و يتزامن هذا الإقرار بالحديث عن مجتمع المعرفة (...) و كأننا نريد أن نتخطى مرحلة التصنيع إلى مرحلة ما بعد الحداثة.

إذ ليس من معنى لمجتمع المعرفة سوى مجتمع البحث و الابداع العلمي و التكنولوجي فعمليات حيازة المعرفة أو ترجمتها و استهلاكها و عمليات نقلها لا تكفي للاندماج في مجتمع المعرفة الذي يجب أن يبدأ بمجتمع التعليم. فإنتاج المعرفة و توظيفها في النسيج المجتمعي ينبغي أن يكون مسبوقا بتخطيط استراتيجي شامل يببن كيف نقيم بنية تحتية معرفية تسمح لنا بالاستيعاب الفعال للمعرفة العالمية و نشرها عن طريق مؤسسات التعليم و مؤسسات الترجمة و النشر و العمل على تكوين الموارد البشرية و الكفاءات المتخصصة اي طبقة العلماء التي تعمل في انتاج المعرفة ونشرها وفي مجالات الإبداع العلمي والتكنولوجي. انه مشروع يحتاج الى تبني سياسة معرفية والى العقول المبدعة الخلاقة كما يحتاج الى توطين ثقافة المعرفة في المجتمع حتى لا تظل -المتوسطية- مجرد وهم حيث يسعى الطرف الاخر على الضفة الاخرى من خلاله الى حماية نفسة من كابوس الهجرة السرية وتظل الكونية مجرد شعار للاستهلاك.

عمل المؤسّسة التّربويّة في التّعليم الابتدائي :

واقع وآفاق

عادل بن عثمـان أستاذ المدارس الابتدائيّة

توطئـــة:

بادئ ذي بدء أريد أن أحيّي منظّمة الاتّحاد العام التّونسي للشّغل وأشدّ على أيدي القائمين عليها. فقد كانت ولازالت وستظلّ تدعم مثل هذه المبادرات وتحرص على تقديم المساعدة الماديّة والأدبيّة لأصحابها. وما وجودنا اليوم في هذه القاعة إلاّ دليل على ما أقول. لقد برهن النّقابيّون وخاصّة رجال التّربية منهم عن سعيهم الجادّ للمساهمة في حركة الإصلاح التّربوي في بلادنا منذ تأسيس هذا الهيكل وإلى يومنا الحاضر . ولا شكّ أنّهم قادرون على إعطاء البدائل الملائمة باعتبار معرفتهم بخصوصيّات الميدان . كما أتوجّه بالشّكر إلى أعضاء النّقابة الجهويّة للتّعليم الابتدائي بتونس للثّقة الّتي منحونيها ودعوتهم لي للمشاركة في فعاليّات هذا اليوم الدّراسي الموضوع تحت شعار " من أجل إصلاح تربوي ناجع ". وأتمنّى نجاح هذا اليوم تخطيطا وتنظيما وناتجا . وقد عنونّا هذه المداخلة : " عمل المؤسّسة التّربويّة بالتّعليم الابتدائي : واقع وآفاق "

مقدّمــــة :

إنّ ما يميّز عصرنا الحالي هو وتيرة التّحوّلات العميقة والمتسارعة في جميع مجالات الحياة ، ولعلّ من أهمّها ما يرتبط بالمنظومة التّربويّة من حيث المضامين والأهداف والرّهانات . فالمدرسة اليوم هي المسؤولة عن مهام التّربية والتّعليم وتأهيل روّادها لحياة المجتمع ومواجهة التّحديّات الّتي تفرضها عليهم ظاهرة العولمة، وتمليها ضرورة الارتقاء بهم على درجات سلّم جودة المنتج الاجتماعي التّربوي . مسألة التأهيل الّتي تقوم بها المدرسة تدعونا إلى التّساؤل حول مدى نجاعة مكوّنات المنظومة وتأهّلها للاضطلاع بهذه المهمّة. ويمكن تناول المسألة من ثلاث زوايا أو على ثلاثة مستويات :

- تأهيل المكوّن المادّي : وفيه نبحث ما إذا كانت البنى الأساسيّة والتّجهيزات المتوفّرة بالمدارس تساعدها على القيام بمهامّها ؟

- تأهيل المكوّن البشري : ويتناول البحث إن كان القائمون بالفعل التّربوي ( أطر إداريّة ، مدرّسون ، إطار إشراف بيداغوجي ، ... ) مؤهّلون لتغطية مهامهم ؟

- تأهيل البرامج التّعليميّة : ونبحث في المستوى، ما إذا كانت البرامج من حيث المضامين والأهداف والغايات والكتب المدرسيّة والمقاربات التّعليميّة المعتمدة قادرة على تأهيل المتعلّم للحياة المجتمعيّة ؟

1 - الموارد الماديّة للمدرسة الابتدائيّة : جهود يحبطها غياب المتابعة وسوء التّوزيع :

إنّ ما يتوفّر من بنى أساسيّة وتجهيزات في المدارس الابتدائيّة أو ما يطلق عليه البعض عوامل الرّفاه البيداغوجي ، بهدف تأهيل المدرسة وجعلها قادرة على مسايرة التّحوّلات والتطوّرات الّتي تشهدها السّاحة التّربويّة، يبقى رهين ما يمكن أن يقدّم للمنظومة من إمكانات تساعد على تخطّي الصّعاب وتحقيق الرّهانات، وسنركّز في هذا الباب على اثنين من المشاريع التّربويّة نظرا لما يتطلّبانه من إمكانات ماديّة وتجهيزات وهما :

- بعث الأقسام التّحضيريّة في المدارس الابتدائيّة .

- إدماج تكنولوجيا المعلومات والاتّصال في عمليّتي التّعليم والتّعلّم .

فقد ورد في التّقرير الوطني لوزارة التّربية " حول تطوير التّربية " 2004 / 2008 ما يلي :

- تمّت تهيئة معدّل 300 قسم خاص بتنشيط التّحضيري سنويّا ، ممّا رفّع عدد المدار س الّتي تحوي المشروع إلى 1750 وعدد الأطفال المستفيدين من التّجربة إلى 31869 .

- مواصلة تجهيز المدارس بالحواسيب ، حيث بلغت نسبة التّغطية 70 % من إجمالي المدارس الابتدائيّة بالبلاد ممّا رفّع معدل الحواسيب بالنّسبة للفصل الواحد إلى 0.81 ( نفس الرّقم لم يتجاوز 0.71 في الإعداديّات ) مع العلم أنّ الهدف المرسوم 1 حاسوب لكلّ فصل .

معطيات رقميّة هامّة ولكن الواقع يخفي حقائق ليس بإمكان الإحصاء الرّقميّ إبرازها ، جملة من النّقائص والثّغرات لا يمكن تبيّنها إلاّ بالممارسة العمليّة والزّيارة الميدانيّة . فقد تبيّن أن تجهيز مدرسة بمخبر للإعلاميّة يقلّص عدد الفضاءات المعدّة للتّدريس ، وهو ما يعسّر بناء التّنظيم البيداغوجي ، وفي غلب الحالات يضطرّ المعنيّون بالنّظر في لاهذه المسالأة أغلب الأحيان يضطرّ المعنيّون بهذه المسألة إلى توظيف المخبر في التّعليم

العام، حينئذ تصير إمكانيّة الاستفادة من هذه التّجهيزات من قبل المربّين ومحاولة توظيفها في عمليّة التّعلّم عسيرة إن لم أقل مستحيلة، ويُعتبر عدم جاهزيّة مخبر الإعلاميّة لإيواء المتعلّمين الّذين يرغب مدرّسهم في استعمال هذه التكنولوجيا الحديثة سببا رئيسا لتفسير بطء تقدّم المشروع . في نفس الوقت نكون قد قلّصنا أمل حياة الحواسيب باعتبار أنّها أجهزة حسّاسة ولا يمكن لها أن تتعايش جنبا إلى جنب مع السبّورة الخضراء وشقيقها الطّباشير .وإجمالا نستنتج ممّا يحصل في الميدان أن المشروع يلاقي عديد الصّعوبات . ويعرف مجموعة من الإرهاصات والنّقائص الّتي تحول دون تقدّمه وارتقائه من مستوى الاستئناس إلى مستوى الاستعمال ، فالتّوظيف الواعي ثمّ الإنتاج ونعني إنتاج بعض الوسائط الرّقميّة الّتي يمكن أن تستعمل في عمليّة التّدريس. ومنها نذكر :

- غياب الصّيانة بنوعيها [ صيانة البرمجيّات (Soft)، وصيانة قطع الغيار (Hard) ] فلا يتجاوز معدّل نسبة الحواسيب الصّالحة للاستعمال في المدارس الابتدائيّة الـ : 50 % في أفضل الحالات .

- غياب الحماية اللاّزمة للتّجهيزات، فكثيرا ما تعرّضت المدارس في مختلف أنحاء الجمهوريّة إلى السّرقة، منها ما أُعيد تجهيزه ومنها ما لم يحصل معه هذا الإجراء . ونجد مدارس أخرى لم تجهّز البتّة . ثمّ في الإعداديّات نطالب المتعلّمين بحدّ أدنى من المعارف التّقنيّة ، فهل أعطينا نفس فرص النّجاح والتّعلّم لكلّ المتعلّمين ؟ وهل يمكن الحديث عن مبدإ العدالة البيداغوجيّة بين أبنائنا. والوضع على هذه الحال من اللاّتوازن بين المؤسّسات .

- تقادم الأجهزة - خاصّة في المدارس صاحبة الرّيّادة في هذا المشروع – وعدم صلوحيّتها للعمل باعتماد البرمجيّات الجديدة ( حتّى البرمجيّات الحرّة والبسيطة ) .

- غياب برنامج تكوين معمّق للمدرّسين باعتبار قدراتهم في المجال وغياب الآليّة المنظّمة لذلك

- انعدام فرصة تمكين المدرّس من استغلال مخبر الإعلاميّة لتنمية معارفه الخاصّة ولتوظيف هذه التّقنيّات في عمله إعدادا وأداءً .

أمّا مشروع الأقسام التّحضيريّة وإن وسّع من مشمولات المدرسة الابتدائيّة، وأدخل نشاطا إضافيّا على مهامّها، فإنّه مازال يشكو نقائص عدّة قد تعصف بنجاحه وبإمكانيّة تقدّمه وألخّصها في النّقاط التّالية:

- عدم وجود الآليّة المنظّمة لقبول الأطفال في الأقسام التّحضيريّة بمقابل في مستوى التّقنين والتّنفيذ والممارسة.

- غياب الاختصاص والاحترافيّة لدى المعلّمين الّذين خيّروا خوض تجربة الأقسام التّحضيريّة وحتّى التّكوين الّذي تلقّوه يبقى غير كاف لأنّه ليس بالأمر الهيّن أن يصبح المدرّس منشّطا يتعامل مع فئة عمريّة ما قبل الدّراسة .

- تناقص عدد الأطفال المسجّلين بهذه الأقسام مع التقدّم في السّنة الدّراسيّة، رغبة من الأولياء في إلحاق أبنائهم برياض الأطفال دعما لتعلّم القراءة والكتابة وحتّى اللّغات. وفي هذا الإطار وحرصا على إنجاح المشروع، يحسن بوزارة التّربية بالتّنسيق مع الوزارات ذات الصّلة العمل على توحيد البرامج المعتمدة في تنشيط الأقسام التّحضيريّة بالمدرسة الابتدائيّة ورياض الأطفال والكتاتيب العصريّة مع تفعيل آليّات المتابعة والمراقبة في المؤسّسات الخاصّة .

إنّ المدرسة التّونسيّة اليوم مازالت تفتقر إلى جملة من الحاجيّات ذات الأولويّة والّتي يمكن أن تدعم مجهود التأهيل بشكل جدّي ومنها:

- توفير مكتب للمدير - في صورة عدم توفّره - وتجهيزه بما يمكّن صاحبه من تعصير إدارته، وذلك ببرمجة تكوين خاصّ في الإعلاميّة بتعرّف البرمجيّات الّتي تساعد على التّسيير والتّصرّف في الموارد المتاحة بأنواعها. أيعقل أن ننهض بكلّ الإدارات ونرقمن جداول معطياتها عدى المدرسة الابتدائيّة ؟

- تفعيل دور مساعد مدير المدرسة، هذه الخطّة المعمول بها في المدارس الكبيرة، مع توضيح أدواره البيداغوجيّة والإداريّة والاجتماعيّة التّواصليّة، حتّى توحّد الرؤى في النّظر إلى هذه الخطّة والمكانة الّتي تستحقّها ، وآليّة التّعامل مع القائمين بها .

- توفير قاعة للمعلّمين نظرا لما يمكن أن تضفيه على المناخ التّواصلي داخل المؤسّسة وحتّى خارجها باعتبار الدّور الّذي تلعبه في التّقريب بين أفراد الأسرة التّربويّة . إضافة إلى إمكانيّة استغلالها من قبل المربّين .

- توفير الوسائل والأدوات البيداغوجيّة الّتي تيسّر العمل وتمكّن من تنفيذ المبرمج . فهل يعقل أن تدرج بعض الدّروس ضمن البرامج الرّسميّة وخاصّة في العلوم والتّنشئة الاجتماعيّة ولا تتوفّر بمدارسنا الأدوات والوسائل اللاّزمة لإنجازها :

مثال 1 : التأثير الكيميائي للتيّار الكهربائي درس مبرمج بالسّادسة يحتاج إلى محلال ، فهل تتوفّر هذه الوسيلة بالمدرسة ؟

مثال 2 : بعض الخرائط الجغرافيّة لم يتمّ تحيينها فلم تعد مسايرة لمعطيات الواقع .

- صيانة الفضاءات التّربويّة ومحتوياتها ( السبّورات ، الطّاولات ، مكتب المعلّم ...) حتّى نوفّر الإطار الأمثل للعمل ولإنجاح العمليّة التّربويّة . ماذا ننتظر من طفل يجلس جلسة غير مريحة بالمرّة فالمقعد بدون خشبات .

2 - الموارد البشريّة : المناخ التّواصلي قاعدة لإنجاح عمل المؤسّسة

الحديث عن العنصر البشري يعني الحديث عن رأسمال المؤسّسة الّتي يتمثّل دورها في إنتاج عقول مفكّرة ناضجة تؤهّل أصحابها للحياة العامّة . ويبقى المدرّس رجل الميدان والممارس الفعلي والمباشر أحد أهم مراكز اهتمام العمليّة التّربويّة، بفضله يُرْسَمُ نجاحها، وعليه تُبنى رهاناتها . وباعتبار أن وظيفته تقتضي توفّر جملة من الكفايات المعرفيّة القاعديّة تمثّل رأسماله الثّقافي وتتضمّن المعارف العامّة والمتخصّصة وكلّ المهارات والخبرات المتّصلة بمساره الدّراسي وهي ما يعرف بالتّكوين القاعدي (Formation de base ) ، فإنّ الأهمّ هو القدرة على تحويل هذه المعارف إلى حقل العمل . وهذه العمليّة بدورها تحتاج إلى جملة من الكفايات الإداريّة، منها الّتي تتّصل بأخلاقيّات المهنة ومنها البيداغوجيّة العمليّة ذات الصّلة كتقنيّات التّنشيط والمقاربات التّعليميّة – التّعلّميّة والنّقل البيداغوجي ومسألة التّقييم في كلّ مستوياتها ( التّصوّر، الإعداد، التّنفيذ، الدّراسة والتّوظيف ... ) وغيرها من المسائل . ويطلق عليها البعض " المعارف الفعل " أو " المهارات العمليّة " (Savoirs faire) وتقتضي تمرّسا بالميدان ودربة ومرانا وقدرة على استثمار تجارب الآخر وكلّ ذلك يتنزّل في إطار الحرص على متابعة التّطوّر الحاصل في مجال التّربية والتّعليم، ومسايرة التّعديلات الّتي تطرأ على غائيّات التّربية وتوجّهاتها العامّة من منطلق قبولنا بعدم ثبات الأنظمة التّربويّة بحكم ارتباطها بالعنصر البشري . ومن هنا جاءت الحاجة الماسّة للتّكوين المستمرّ الّذي يهتمّ بالجوانب البيداغوجيّة والمنهجيّة والتّواصليّة وحتّى المعرفيّة، تكوين يرمي بلا شكّ إلى إعادة التأهيل وتحسين الأداء وتطوير القدرات وإكساب الخبرة وصقل المواهب . فأيّ تكوين ؟ لأيّ متكوّن ؟ وفي أيّ إطار ؟ وهي برأيي الأسئلة القاعديّة للمسألة.

لقد بيّنت التّجربة الميدانيّة فشل كلّ تكوين مسقط وموجّه باعتبار انّه لا يضمن مساهمة المتكوّن . وعليه فإنّ المكوّن مدعو أكثر من أيّ وقت مضى إلى الاضطلاع بأدواره الحقيقيّة والّتي لا يعدو من خلالها أن يكون إلاّ منشّطا ومنسّقا لسير عمليّة التّكوين ، والتّخلي تدريجيّا عن مقعد المالك للمعرفة القادر على تبليغها وإيصالها للجمهور المستهدف بالتّكوين ، فلا وجود لمصدر واحد أوحد للمعرفة . إنّ نجاح المكوّن في هذه الأدوار يتأتّى من مراعاته لحاجات المشاركين بشكل معقلن [ قبل / أثناء / بعد التّكوين ] لأنّ الحاجة تتغيّر جرّاء التّفاعل البيني مع بقيّة المشاركين وبناء عليه فإنّه لا مجال لتكوين يغيّب فيه المدرّس بمعارفه ومهاراته وخبرته وتجربته. والأفضل التّفكير في الآليّة المثلى لتوظيف هذا المخزون المتنوّع المتوفّر لدى المدرّس في دعم التّكوين، الّذي ينطلق من حاجة الفرد ، ثمّ تترجم هذه الحاجة إلى برنامج جماعي ، لتصير في النّهاية مشروعا شخصيّا يتبنّاه المربّي ويدافع عنه ويحرص على إنجاحه . فمن باب أولى وأحرى أن يشرّك فيه هذا الفرد، وآليّات التّشريك عديدة كأن يقدم درسا شاهدا أو مجلوبا نظريّا أو يعرّف بمبادرة شخصيّة أو ينتج وثيقة ...

لقد أثبت الواقع القدرات المعرفيّة المعتبرة الّتي تتوفّر لدى المربّين وإقبالهم اللاّمنتناهي على الارتقاء بمعارفهم في إطار ما يعرف بـالتّكوّن الذّاتي إن كان نظريّا أو إجرائيّا عمليّا ، ويعتبر التّكوّن الدّاعم الأهم للتّكوين المستمرّ فهذا يدعم ذاك ، وذاك يصقل هذا، ولا يمكن لأحدهما الاستغناء عن الآخر . ولا أظنّ أنّ المعلّم قد خفيت عليه الإضافة الّتي يمكن أن يعطيها التكوّن لـنحت ملامح شخصيّته المهنيّة .

إنّ التّكوين الأجدى هو الّذي يتّخذ الشّكل اللّولبي ، ينطلق من النّظري إلى التطبيقي ثمّ يعود من جديد إلى النّظري وباعتماد التّمشّي ذهابا م إيّابا يمكن أن تظهر مؤشّرات التّجديد من خلال ما يتمّ صوغه من ملاحظات وتعديلات جراء ما يدور من نقاش وجدال وحجاج داخل حلقات التّكوين فيغذّى النّظري بالتّطبيقي والتّطبيقي بالنّظري. ولا أظنّ المدرّس إلاّ شريكا فاعلا في مجال التّجديد البيداغوجيّ، ولا يمكن برأيي الحديث عن تجديد مادام المدرّس - المطبّق والممارس الميداني - غير منخرط فيه . والانخراط يكون شاملا لكلّ المربّين لا انتقائيّا ، محترما لرغباتهم ، لا يلعب فيه المشرف البيداغوجي إلاّ دور المرافق والميسّر للصّعاب الّتي تميّز البحوث الميدانيّة والمؤطّر الموجّه لإمكانات التّوظيف والاستفادة من هذه الأعمال، الّتي يمكن أن ينشر الجيّد منها ويعرّف لدى الأوساط التّربويّة ويثرى . وحتّى تكتسب البحوث الميدانيّة الصّبغة العلميّة ،وتأخذ الإطار القانوني وتوظّف التّوظيف الجيّد ، يمكن لوزارة الإشراف أن تدخل في عقود شراكة مع بعض المؤسّسات الجامعيّة والمعاهد العليا المختصّة والجمعيّات التّربويّة الّتي تضمّ مختصّين ومتطوّعين للعمل والإفادة وتشريك المركز الوطني للتّجديد البيداغوجي والبحوث التّربويّة لتوفير المؤطّرين الأكفّاء للإشراف على هذه البحوث . تدرج هذه الأعمال ضمن مؤشّرات الارتقاء المهني وتقدّم ضمن الملفّ الشّخصي للمترشّح (C.V) . الكلّ يعلم الصّيغة المعتمدة في الارتقاء إلى الصّنف " أ2 " فهل من الممكن اعتماد الملفّ الشّخصي أو ما يعرف بـ : " Portfolio " ؟ ويتضمّن الأعمال والبحوث الميدانيّة وشهائد المشاركة في الدّورات التّكوينيّة للمترشّح ويتمّ التّناظر بالملفّات، إلى جانب اعتبار الأقدميّة العامّة في العمل . ثمّ وبالتّنسيق مع التّفقّديّة العامّة لبيداغوجيا التّربية يتمّ بعث وحدات بحث ميداني على مستوى دوائر التّفقّد تكون في ارتباط وثيق مع ما ينجز من بحوث أكاديميّة وتتمثّل مساهمتها في الجانب التّطبيقي العملي .

3 - البرامج التّعليميّة المقرّرة : أيّ توازٍ بين المضامين والمحامل والتّراتيب :

عرف النّظام التّربوي ثلاث محطّات كبرى تعرف بالقوانين الثّلاث وهي على التّوالي 1958 و 1991 و آخرها القانون التّوجيهي 2002 وتخلّلت هذه الفترات جملة من القرارات والإجراءات قصد التعديل والتّحسين . ومع القانون التّوجيهي جاءت المقاربة بالكفايات ومجلوباتها فصار العمل بـنظام الوحدات في مستوى اللّغة العربيّة وهو أمر مقبول بيداغوجيّا مادام يرمي إلى تناغم محتويات مواد مختلفة ، بما ييسّر التّمفصل المرن بين الدّروس . وفي الحقيقة نظام الوحدة مستوحى من اللّغة الفرنسيّة ولكن بشكل غير مكتمل. فرغم هامش التصرّف في الزّمن المخصّص لكلّ مادّة أسبوعيّا - ما يعرف بالحدّين الزّمنيين الأدنى والأقصى - مازال المدرّس في اللّغة العربيّة يعمل بحسب جدول تصنّف فيه مواد المجال ( تواصل شفوي ، قراءة ، قواعد لغة ، حوار منظّم، إنتاج كتابي ) ويمكن أن يتغيّر زمن حصّة اللّغة العربيّة كما تؤكّده مجموعة النّماذج المبيّنة في دليل التّنظيمات فإنّه لا مجال للحديث عن نظام الوحدات الّذي يعمل فيه المدرّس ويخطّط له باليوم (journée) ** فالمفروض أن نفكّر في إنتاج وثيقة لمعلّم اللّغة العربيّة تفصّل فيها المحتويات والأهداف المميّزة والاقتدارات وتوزّع على حصص متقايسة في الزّمن عندها فقط نكون قد وفّرنا ممهّدات إنجاح العمل بالوحدة . وحتّى في اللّغة الفرنسيّة فإن بعض الوثائق في حاجة للمراجعة فوثيقة معلّم السّنة الثّالثة أعدّت على أساس أنّ الحصّة تدوم 2.5 س ( 150 دق) في حين تعمل المدرسة بحصص السّاعتين ، فالمعلّم مدعوّ إلى تكثيف محتوى الحصّة وليس بإمكانه تحقيق ذلك دائما .

جداول الأوقات الّتي تعمل بــحصص 2 س لا تحتمل جدول يدرّس صاحبه 22.5 س . فهذا الإجراء اتّخذ لمّا كنّا نعمل بنظام 2.5 س واليوم صار لزاما علينا مراجعته ، فلا المواد المقرّرة وتوقيتها يسمح بإسناد نصف ساعة للمعلّم مع قسم ما ، ولا الفضاءات تسمح باستيعاب هذه الحصص خاصّة وأنّ التّنظيمات البيداغوجيّة للمدارس تقتضي أن تستغلّ القاعات خلال الحصّة من س 12 إلى س 13 لاستيعاب حصص الدّعم لراسبي الرّابعة وحصص الأنقليزيّة لتلاميذ السّادسة أفواجا والتّربية التكنولوجيّة وبعض السّاعات المقتطعة من جداول سنوات الدّرجتين الثّانية والثّالثة لإتمام تواقيت بعض المعلّمين .

إنّ المشروع الثّقافي يكتسي أهميّة بالغة لما له من أثر إيجابي على الجانب البيداغوجي، فقط نعرف كيف نوظّفه فهل بحصص التّنشيط الثّقافي المسندة لمعلّمي التّطبيق الذين قضّوا عشرين سنة عمل وبمعدّل ساعتين ونصف للمعلّم الواحد في الأسبوع، يمكن أن نستفيد من التّنشيط الثّقافي ؟ فـــلا المدرسّ مؤهّل ولا الفضاءات التّربويّة مجهّزة ولا جداول أوقات التّلاميذ تسمح بذلك ، فكثيرا ما ترى المدرّس يبحث عن مجموعة من المتعلّمين وإن كانوا من نفس القسم لينشّطهم، وقد لا يحصل على مبتغاه وإن نجح في إيجاد مجموعة فهل يستجيب النّشاط المختار لميولاتهم ؟ وفي بعض الحالات قد لا يجد الفضاء البتّة ... إنّ التّنشيط الثّقافي في المقاربة بالكفايات يشغل الحصص المسائيّة ويتمّ توجيه الأطفال بحسب ميولاتهم ومؤهّلاتهم ومهاراتهم، ويقوم به مختصّون في التّنشيط . فالواقع اليوم يقتضي إعادة النّظر في هذه المسألة من جميع الزّوايا وبمختلف وجهات النّظر قصد الاستفادة منها بأكثر قدر ممكن ولم لا حذف هذه السّاعات من جدول أوقات المدرّس الّذي قضّى عشرين سنة في المهنة وإسنادها إلى متطوّعين أو بعض المختصّين في المجال يتمّ انتدابهم من قبل وزارة التّربية .

وفي إطار تحسين ظروف عمل المربّين وتوفير ممهّدات النّجاح لمنظومتنا التّربويّة وجب التّفكير في عديد المسائل منها :

- كثافة الفصول الّتي قد تصل إلى 35 وحتّى أكثر وهذا من شأنه أن يقلّص من إمكانيّة تطبيق المقاربات التّعليميّة المعتمدة والإتيان على مختلف مجلوباتها. والوضع على حاله هذا أي مدى لـنجاح تطبيق بيداغوجيا التّفريق وحصص الدّعم والعلاج . وهل يمكن الحديث عن المشروع التّعليمي - التّعلّمي الإفرادي وغيرها من مجلوبات المقاربة ؟

- الحرص على التّوازن بين ما تتطلّبه أهرام أقسام المدارس وما يوفّره الإطار . تقليصا من الهدر الّذي تفرضه خصوصيّات المؤسّسة. فمن المفارقات أن نجد مدرسة بها ساعات تكميليّة حسابيّا وغائبة إجرائيّا . ونجد مدارس ذات أولويّة تربويّة كلّ معلّميها يعملون ساعات زائدة ( 25 و26 وحتّى 28 س أسبوعيّا ) وقد لا يتوفّر الفضاء في بعض الحالات للقيام بحصص الدّعم الإضافي. فأيّ مردوديّة نترقّب من هؤلاء المربّين في مدرسة نرمي إلى الارتقاء بنتائج أبنائها ، وإخراجها من بوتقة الأولويّة التّربويّة؟

نتحدّث اليوم أكثر من أيّ وقت مضى وفي كلّ الميادين عن ضرورة التّخصّص ونتابع التّفرّعات الحاصلة في مختلف أنواع العلوم، فعلم النّفس مثلا صار فيه عدّة فروع منها ( علم نفس النّمو، علم النّفس التّحليلي، وعلم النّفس العرفاني، علم نفس الطّفل، علم نفس الكهول، علم نفس المراهق، علم النّفس الاجتماعي، علم نفس التّربية ...) مدرسّ الثّانوي والتّعليم العالي وحتّى في المؤسّسات الخاصّة بالتّعليم ما قبل المدرسي متخصّصون. إلاّ المدرّس في التّعليم الابتدائي فإنّ عمله مازال شموليّا . فهو يدرّس كلّ مجالات المعارف ( العلوم ، واللّغة العربيّة ، الفرنسيّة ، التنشئة الاجتماعيّة ، والفنيّة ). وقد يدرّس لغتين وحتّى ثلاث . وأمام كثرة المواد المدرّسة وتنوّعها وطبيعة توزيعها مع توجيه أهداف التّربية إلى المراقي العرفانيّة العليا ، فإنّ المدرّس مضطرّ إلى تعميق معارفه في كلّ هذه المواد وهذا برأيي غير ممكن . ويبدو أن التخصّص في مجال ما ييسّر الأمر ويكون عائده إيجابيّا على عمل المعلّم إعدادا وأداء وعلى قدرات المتعلّمين مكتسبا وتوظيفا . علما وأنّ تجربة معلّم المجال كانت قد طبّقت في فترة ما ثمّ وقع التّخلّي عنها، رغم إقرار كلّ من طبّقها بنجاعتها .

اليوم وفي عمليّة الانتداب لا نقبل إلاّ حاملي الشّهائد العليا " الأستاذيّة " وهناك اختصاصات ممنوعة من التّعليم الابتدائي فهل بالإمكان انتداب مجموعة من المختصّين في التّربية الموسيقيّة والتّشكيليّة للتّدريس بالمدارس الابتدائيّة كما حصل في التّربية البدنيّة وهو أمر استحسنه الجميع . فصار لدينا مدرّسو تربية بدنيّة يقسّم عمل كلّ واحد منهم على مدرستين متجاورتين .

أمّا بالنّسبة لحصص دعم الرّاسبين من تلاميذ الرّابعة وإن كان هذا الإجراء قد وفّر جملة من مواطن الشّغل الجديدة فإنّه كان بالإمكان أن يستفاد منها بشكل أعمق. ماذا لو وجّهنا الدّعم إلى النّاجحين بتوصية إلى السّنة الخامسة ، فهؤلاء برأيي أولى بالدّعم من الرّاسبين لأنّهم مطالبون بالوصول إلى مستوى معيّن دون إهمال برنامج الخامسة أي هم في حاجة إلى عمل مواز للبرنامج المقرّر وهو بنظري ما يجب أن تقدّمه حصص الدّعم . أمّا مع الرّاسبين في الرّابعة فالمتعلّم سيعيد البرنامج من ناحية ثمّ كيف للمعلّم أن يبني حصص الدّعم والحال أنّ نتائج آخر السّنة - نتائج مناظرة الرّابعة - تبنى على التّقييم العددي .

مع المقاربة بالكفايات توضّحت محطّات التّعلّم إذ هي تبدأ بالاستكشاف وتنتهي بالدّعم والعلاج مرورا بالتّعلّم الآلي فالإدماج والتّقييم . وما يعرف عن الوضعيّات الاستكشافيّة أنّها تمتاز بالجدّة في أحد مكوّناتها ومن شروط إنجاح عمليّة الاستكشاف ألّن يكون المتعلّم قد رآها من قبل، فهل يعقل أن تقدّم لنا وثائق التّلميذ في كلّ المواد تقريبا وضعيّات استكشافيّة والحال أنّ التّلميذ يقتني كتبه من العطلة الصيفيّة. فيكون قد استأنس بمحتوياته، هذا دون نسيان حرص العائلة التّونسيّة على تدريس الأبناء خارج المؤسّسة التّربويّة . وعليه فإنّ اعتماد وثيقة المتعلّم بشكل كلّي يبدو أنّه غير ضامن لنجاح الدّروس . فالكتاب المدرسي في حاجة للمراجعة من حيث المحتوى ومن حيث التّوظيف :

من حيث المحتوى، وكمثال سأكتفي بذكر بعض الثّغرات الّتي ظهرت على كتاب التّنشئة الاجتماعيّة للسّنة السّادسة :

- سوء ترتيب للأحداث التّاريخيّة، حيث تُقدّم انتفاضة عليّ بن غذاهم 1864 على إصلاحات أحمد باي 1840 – 1864 ثمّ إصدار عهد الأمان 1857 . اختلال التّرتيب الزّمني يخلّ بمنهج تدريس التّاريخ الّذي يتطلّب الانطلاق من الإطار التّاريخي للحدث فلا يعقل أن يتعرّض المتعلّم إلى انتفاضة علي بن غذاهم وهو لا يعلم الإطار التّاريخي الّذي اندلعت فيه ولم يدرس بعد خصوصيّات الفترة الهامّة من تاريخ تونس المرتبطة بإصدار عهد الأمان 1857 ثمّ إعلان دستور 1861 .

أمّا عن برنامج التّخفيف الّذي طرأ على البرامج فقد أتى على مرحلة هامّة من الحركة الوطنيّة المتمثّلة في الحركة النّقابيّة ومساهماتها الهامّة وكذلك عمل الحركة الشّعبويّة " الفلاّقة " فغابت إمكانيّة الوعي بتكتّل القوى الوطنيّة ضدّ المستعمر . وتعرّف الآليّات المعتمدة في تأطير الجماهير . كما تمّ حذف الأسباب البعيدة والقريبة للاحتلال الفرنسي للبلاد التّونسيّة . فهل يمكن فهم حقيقة الحركة الاستعماريّة دون الوعي بالدواعي العميقة للتوسّع الاستعماري ؟

ولمّا كانت منهجيّة تدريس مواد التّنشئة الاجتماعيّة تركّز على تعامل الطّفل مع الوثائق وعلى تدريبه على قراءتها وحسن توظيفها في بناء معارفه ووجهات نظره ومواقفه من الحدث التّاريخي ، فإنّه من الضّروري الحرص على أن تكون الوثائق المقدّمة وظفيّة تخدم الأهداف المرسومة للدّروس وتتوفّر على حدّ أدنى من الأمانة العلميّة كذكر مصدرها وتدقيق معطياتها ، مع حسن اختيارها.فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتعرّف المتعلّم أسباب انتصاب الحماية الفرنسيّة بتونس من خلال مقطع قصير من خطاب لجول فيري عن كتاب " انتصاب الحماية الفرنسيّة بتونس " لعلي المحجوبي . كما نشير إلى غياب المصادر في أكثر من خريطة وجدول مع ضبابيّة العنوان وتداخل الألوان في محاولة لاعتماد الدّرجات الضّوئيّة للّون الواحد مع غياب الدقّة فالخريطة الواردة بكتاب التّلميذ ص 91 مثلا والموضوعة تحت عنوان " خريطة توزّع السّكان حسب مناطق الكثافات " لم تحدّد سنة أخذ المعطيات ( أي تاريخها ) ، فالأهمّ في الجغرافيا ليس وصف الظّاهرة فحسب إنّما دراسة تطوّرها ومادام التّاريخ غير محدّد فإنّ العناية بتطوّر الظاهرة غير ممكن . في نفس الكتاب نجد جدولا بالصّفحة 109 تحت عنوان " الموارد الطّاقيّة والمنجميّة ببلدان المغرب العربي " ولكن المعطيات المقدّمة تختلف من حيث تاريخ القيام بإحصائها بين البلدان وحتّى بين المواد . ثمّ نجد سؤالا يُطالب التّلميذ من خلاله بالمقارنة بين البلدان . فهل يمكن منهجيّا المقارنة بين معطيات تهمّ فترات مختلفة ؟

تسود اليوم فكرة لدى المربّين وخاصّة الجدد منهم مفادها أنّ الكتاب المدرسي - وثيقة المتعلّم - متوفّر للتّطبيق الكلّي، والالتزام بما ورد فيه، في حين أنّه من المفروض الاستئناس به واختيار ما يناسب المتعلّمين منه فقط . لأنّه كما تمّ تبيانه فإنّ اعتماده غير ممكن منهجيّا على الأقلّ، دون الغوص في الحديث عن محتوياته . إنّ العمل بالكتاب الواحد الأوحد قلّص من فرص الاختيار ودعّم فكرة التّماثل في العمل أي جعل البرامج هيكلا أو نموذجا يتكيّف معه المتعلّم وخاصّة في حالة الاعتماد الكلّي عليه، في حين أن بيداغوجيا التّملّك ووليدتها بيداغوجيا التّفريق أو البيداغوجيا الفارقيّة ( من مجلوبات المقاربة بالكفايات في مستوى الممارسة ) تعملان على تطويع البرامج بمضامينها ومناهجها وطرق التّنشيط والوسائل البيداغوجيّة وغيرها ..... لقدرات المتعلّمين وأساليب التعلّم وأنساقه لديهم واستراتيجيّات عملهم .

إنّ في التّوجّه الجديد للتّنظيم الإداري والتّراتبيّة الإداريّة لوزارة التّربية والّتي دخلت حيّز التّنفيذ بداية من 5 ماي 2010 تجسيد لاستقلاليّة الإدارات المتفرّعة عنها في التّسيير الإداري والمالي فهل فكّرت الوزارة في الاستقلاليّة البيداغوجيّة ؟ الفكرة تعيدنا إلى الكتاب المدرسي الواحد الأوحد وهو محل نظر في ما يهم الشّكل والعرض والمضمون وبخاصّة في آليّة توظيفه . كنّا في ما مضى نعتمد أكثر من كتاب وكلّنا أو أغلبنا يتذكّر عناوين كـــ : " المشوّق " و " من القراءة إلى التّعبير " و " الرّياض" ... فقد اجتمعت كلّها في فترة واحدة وفي كل المستويات تقريبا، بحيث كان للمدرّس إمكانيّة الاختيار بينها . وهي ثريّة في النّصوص الّتي تقدّمها ، إذ هي مقتطفات من كتب كبار الأدباء كميخائيل نعيمة وطه حسين والمنفلوطي ومحمّد لعروسي المطوي والبشير خريف وغيرهم ... وكان أثرها إيجابيّا على مستوى مكتسبات التّلاميذ وخاصّة في مستوى التأليف أو ما كان يعرف بالإنشاء . صحيح أنّ هؤلاء الأدباء لم يكتبوا في مشاكل وقضايا الحاضر كمسائل الاتّصال وتنوّع مصادر المعرفة والثّورة الرّقميّة وتغيّرات المناخ والبيئة ... ولكن ليس المهم أن أتناول القضيّة ذاتها بل الأهمّ أن أعدّ المحمل الذي سيسعها . أي بصورة أخرى أن أحسّن مستوى استعمال اللّغة العربيّة من قبل المتعلّم قبل أن أحدّد نوع الموضوع الّذي سيكتب فيه . لقد ثبت اليوم أنّنا نعيش أزمة كتابة ، أزمة تأليف ناجمة عن التّخلّي عن الكتاب والمطالعة، تتجلّى صورها الأولى في مستوى إنتاجات أطفالنا في الابتدائي . وهذه الأزمة أنتجت صراعا خفيّا ومعلنا في بعض الأحيان بين الثّانوي والابتدائي وبين التّعليم العالي والثّانوي . فعوض أن يجتمع الكلّ لتدارس المسألة والبحث عن الحلول الملائمة لها فإنّ كلّ واحد يتنصّل منها ويرمي بالمسؤوليّة إلى الآخر ، والواقع أنّ الكلّ مسؤول عنها ويتحمّل جزءا منها. وبخاصّة وسائل الإعلام الّتي أحمّلها المسؤوليّة الأكبر في تردّي مستوى أطفالنا . فماذا ننتظر من طفل كبّلته التّلفزة بفقراتها الإشهاريّة من نوع " هشهشني وقرمشني " و " يكبّ سعدك يا لخضر " فهلاّ اعتبرنا بالتّجربة السّابقة على الأقلّ في مستوى الكتاب المعتمد وآثرنا التّخلّي عن فكرة الكتاب الواحد وتغييره بتعدّد الوثائق في نفس المادّة ونفس المستوى . حيث تعدّ الوزارة كراس شروط للمنتج المنتظر ثمّ يفتح المجال للّجان للعمل ثمّ تقدّم الأعمال وتدرس من قبل لجان تقييم تكوّنها الوزارة ممّن تتوفّر فيه الكفاءة والخبرة في هندسة البرامج وتحليل المحتويات وأساتذة جامعيّين من أهل الأختصاص بحسب المجالات . وتختار الأعمال الجيّدة لتؤشّر عليها الوزارة وتصير قابلة للتّطبيق والاستعمال . وحتّى نضمن الجدوى والفاعليّة لهذه المؤلّفات يحسن أن يكون أصحابها والمشاركين في تأليفها من أهل الاختصاص ، فهم الأعلم بخصوصيّات المادّة والأقدر على تخيّر الوضعيّات المناسبة والوثائق الأنسب ...

خاتمــــة

إنّ النّهوض بالمنظومة التّربويّة مسؤوليّة جماعيّة وحتّى يتمّ الارتقاء بناتج أبنائنا بالشّكل المأمول ونحقّق الأهداف المرسومة، لابدّ لكلّ الأطراف أن تتحمّل مسؤوليّاتها وأن يسعى كلّ من موقعه إلى تعديل المسار . فليس العيب في أن نخطأ بل العيب في أن نُبقي على الخطإ ذاته . فالخطأ دليل على المحاولة ، والمحاولة تبقى الخطوة الأولى للرّغبة في الارتقاء والبحث عن الجدوى والفعاليّة. فنحن اليوم وفي مستوى مسايرة التّطوّرات الحاصلة على السّاحة التّربويّة العالميّة، قد تجاوزنا مرحلة التّحسّس والإخبار ومرحلة تغيير التّمثّلات تجاه الظّاهرة . ولم يبق لنا إلاّ المرور إلى المرحلة الثّالثة وهي أن نغيّر ممارساتنا. إنّ القبول بفكرة أنّ الارتقاء بالمنظومة التّربويّة مشروع يكفي لضرورة أن تفكّر الأطراف الفاعلة فيه في توزيع الأدوار فيما بينها (Qui fait quoi ?) ثمّ الالتزام بها. ويبقى المناخ التّواصلي بين الأطراف الفاعلة في العمليّة التّربويّة هام جدّا في تحديد نسبة النّجاح ونسبة الانخراط والمشاركة في المشروع التّربوي . ونتمنّى أن تكون شموليّة لا يغيّب فيها أي عنصر وخاصّة رجال العمل الميداني المباشرين (المربّون) بشكل أعمق، وخاصّة في ما يهمّ التّجديدات البيداغوجيّة وتخيّر ميكانيزمات سير عمل المؤسّسة . وألخّص القول بأنّ الإصلاح التّربوي مشروع جماعي يحتاج إلى توضيح أدوار الفاعلين فيه والتزام كلّ طرف بمهامّه .

أخيرا أتمنّى أن تكون المداخلة خفيفة على الحاضرين. وأن تكون قد أتت على مجموعة من المواضيع الهامّة الّتي تشغل بال كلّ من له صلة بالمدرسة الابتدائيّة . وهي برأيي ليست إلاّ بابا يفتح النّقاش بشأن عديد المسائل التّربويّة واقتراح بدائل يمكن أن تكون مساهمة منّا جميعا في حركة الإصلاح التّربوي ببلادنا.

وشكــــــــرا

يوم دراسي بتونس العاصمة حول المنظومة التربوية بالتعليم الاساسي:

المعلمون: نريده تعليما عموميا مجانيا إجباريا وديمقراطيا !

الاتحاد شريك رئيسي في بلورة المنظومة التربوية

http://www.echaab.info.tn/up_photo/201006015708.GIF


على مدى يوم كامل، وبإشراف الاتحاد الجهوي للشغل بتونس، نظمت النقابة الجهوية للتعليم الأساسي يوم 22 ماي 2010 بقاعة أحمد التليلي بدار الاتحاد يوما دراسيا تحت عنوان: "من أجل إصلاح تربوي ناجع".
اللقاء تضمن 3 محاضرات، الأولى للأستاذ عبد العزيز الخماسي حول »نقابة المعلمين التونسيين والتجربة الأولى لإصلاح التعليم زمن الاستعمار« والثانية للباحث مسعود الفيلالي بعنوان: التوجهات التربوية في تونس ما بعد 56 من خلال الإصلاحات الكبرى والكتاب المدرسي أما المحاضرة الثالثة فأهتمت بواقع وآفاق عمل المؤسسة التربوية في التعليم الأساسي وأمّنها الأخ عادل بن عثمان.
هذا وكانت للنقابة العامة للتعليم الأساسي في شخص عضو مكتبها التنفيذي الاخ سليم غريس كلمة خلال الحصة المسائية قدم فيها تقريرا حول مشاركة النقابة في لجنة تجويد البرامج ثم انقسم المشاركون الى ثلاث ورشات تناولت الأولى واقع المدرسة التونسية من حيث البنية التحتية، والثانية اهتمت بالبرامج والمحتوى والكتاب المدرسي، اما الثالثة فاشتغلت حول دور المعلم في العملية التربوية، وسيتم من خلال هذه الورشات رفع توصيات وورقات عمل لبلورة موقف نقابي لقطاع التعليم الأساسي بجهة تونس.
نقابة المعلمين التونسيين والتجربة الأولى لإصلاح التعليم زمن الاستعمار
ضمن المداخلة الأولى تطرق الأستاذ عبد العزيز الخماسي الى ظروف تأسيس نقابة المعلمين التونسيين وكيف استطاع معلمو اللغة العربية ان يلتفوا حول تنظيم خاص بهم أسسوه تحت عنوان »الجمعية الودادية لمعلمي اللغة العربية« سنة 1919 وجعلوا لأنفسهم أهدافا للعمل من أجل تحقيقها تحت إشراف جمعيتهم، وقد نبعت كل تطلعاتهم من الظروف القاسية التي كانوا يعانونها في ظل حكومة المستعمر التمييزية التي جعلتهم يحسون بوضعهم الدوني إزاء زملائهم الفرنسيين الذين تفوقوا عليهم في الحقوق رغم تساويهم في الواجبات، ثم تطورت تلك الجمعية مع تصعيد الإدارة الفرنسية ومع بروز الظروف المواتية وانتشار الوعي المهني والوطني لدى المعلمين التونسيين، فالتفوا حول منظمتهم الفتية وطوروا أعمالها وبوبوا مطالبهم المادية والأدبية ورفعوها إلى إدارة العلوم والمعارف. وقد ارتقت الى نقابة مع توفر الظرفية المواتية ومنها صعود الجبهة الشعبية الفرنسية الى السلطة وأصبحت تسمح ببعض الحريات النقابية فأسس المعلمون التونسيون »النقابة التونسية للتعليم العربي العمومي» سنة 1936 ضمت كل أصناف معلمي اللغة العربية وأخذت المشعل عن »الجمعية الودادية لمعلمي اللغة العربية«. ولما بات متأكدا أن المعلمين لا يمكنهم بلوغ كل ما يصبون اليه بصنف واحد حسب لغة التدريس، التفوا وأسسوا تنظيما واحدا وموحدا شمل كل المعلمين التونسيين بقطع النظر عن لغة التدريس سموه »النقابة التونسية للتعليم العمومي« وذلك سنة 1946، فتوحدت الرؤى واشتد عود رجال التعليم ليمارسوا ما أوكل اليهم من النضال الوطني والمهني.
أما بخصوص الإصلاح التربوي من وجهة نظر الجمعية الودادية لمعلمي اللغة العربية ثم نقابة المعلمين، فبعد التشاور أفضى النقاش بين النقابيين الى جملة من النقاط التي رأوا في تحقيقها إصلاحا للتعليم. ورأى المعلمون انه لا يمكن أن نصلح التعليم ما لم نصلح حال المعلم أولا، وبذلك تقدموا إلى إدارة العلوم والمعارف بجملة من المطالب المادية والأدبية التي رأوا من خلالها الإمكانية الفضلى لتحقيق الإصلاح التربوي. ومن هذه المطالب المساواة بين المعلمين التونسيين والمعلمين الفرنسيين ماديا وأدبيا، كالمرتبات ومنحة السكنى التي طلبوا تمتيع التونسيين بها على غرار ما يتقاضاه المعلم الفرنسي، وكذلك إعطاء اللغة المكانة التي تستحق من زمن في الدراسة وتفعيل دورها في التحصيل والارتقاء من قسم الى آخر، كذلك شمل البرنامج الإصلاحي البرامج الرسمية وعدد ساعات الدراسة والمواد التي تدرس، وتمثيلية المعلمين التونسيين في المجالس واللجان بأنواعها وتشريكهم في القرارات المهنية والترقيات وغيرها.
من ناحية أخرى اهتم العنصر الاخير بما اقترحته نقابة المعلمين التونسيين على الادارة الفرنسية لإصلاح التعليم ومدى فاعلية هذه المقترحات وتأثيرها على الرأي الاستعماري والرأي العام التونسي.
الاصلاحات والكتاب المدرسي بعد 1956
المداخلة الثانية قدمها الباحث مسعود الفيلالي حول التوجهات التربوية في تونس ما بعد 56 من خلال الإصلاحات الكبرى والكتاب المدرسي وأكد خلالها أهمية أخذ الدروس الجوهرية من هذه التوجهات لرسم بديل واضح للمنظومة التربوية الحالية من قبل الجانب النقابي خاصة في ظل ما تعيشه السياسة التربوية من تحكم قسري من عديد الجهات بما فيها الدولة واستعرض الباحث الخيارات الممكن إتباعها لدعم مقاربة تربوية معيّنة، فإما اتباع مقاربة تجميلية تابعة لمراكز القرار الدولي الذي يأخذ على المدرسة في البلدان العربية تخلفها وتفريخها للإرهاب، أو دعم مقاربة أخرى قاعدتها الإصلاح الوطني الذي يتضمن الإدراج الإرادي والمدروس لمنظومة قيم تشمل المواطنة الاجتماعية والسياسية والحقوق المدنية.
كما بين المحاضر ان إصلاحات 58 و 91 و 2002 تأسست على رؤية ايديولوجية رسمية تبنت عديد المصطلحات مثل »الوحدة القومية« و »الحس المدني« و »التفتح على الحداثة«...
فضلا عن أن الكتاب المدرسي كان بامتياز ناطقا رسميا باسم ايديولوجية السلطة وهذه العناصر جعلت من التعليم ما بعد 1956 احدى دعائم هيمنة الطبقات السائدة وتأبيد الوضع القائم وكانت التوجهات التربوية خادمة للهيمنة ومحافظة »للأزمة« على حد عبارة »غرامشي« وهو الامر الذي يجعل »مجتمع« النقابات والأولياء، بشكل ملحّ، يحدد عوامل الازمة واستشراف الحلول الملائمة.
واقع وآفاق عمل المؤسسة التربوية
الاخ عادل بن عثمان، وضمن عرضه، قدم بعضا من مظاهر الاهمال للموارد المادية للمدرسة الابتدائية على مستوى الأقسام التحضيرية وادماج تكنولوجيا المعلومات والاتصال في عمليتي التعليم والتعلم ولاحظ غياب الصيانة وحماية التجهيزات وتقادمها الى جانب انعدام برنامج تكوين معمق وحرمان المدرس من استغلال مخبر الاعلامية فضلا عن غياب الاختصاص والكفاءة إلخ...
وأشار الاخ بن عثمان ان المدرسة مازالت تفتقر عديد العناصر ذات الأولوية كتوفير مكتب للمدير وتفعيل دور مساعد المدير وتوفير قاعة للمعلمين وصيانة الفضاءات التربوية.
من جانب آخر، أكد المحاضر ضرورة مراعاة التكوين لحاجات المشاركين بشكل معقلن، فهذا التكوين وجب أن تكون قاعدته حاجة الفرد لترجمتها فيما بعد الى برنامج جماعي حتى يتحوّل في النهاية الى مشروع شخصي يتبناه المربي علاوة على ضرورة تشريك المدرس في مجال التجديد البيداغوجي وإيلاء الأهمية اللازمة للبحوث الميدانية.
الباحث أبرز كذلك جملة التناقضات في تطبيق برنامج المقاربة بالكفايات مؤكدا ضرورة تحسين ظروف العمل وتطوير البنية التحتية وإعطاء الأهمية لمشروع ثقافي جاد ومتطور والنضال من أجل تشريك أوسع في كل الاختيارات.
نقاشات واستفسارات
الاطارات النقابية الحاضرة، ركزّت في نقاشها على أهمية أخذ التجارب السابقة بعين الاعتبار خصوصا وأنها تضمنت عديد المكاسب للمعلمين باتت غير موجودة حاليا في ظل منظومة تربوية ظهر فشلها للعيان، وأكدت ان اي اصلاح يكون متطورا يجب ان يكون بالضرورة عبر تشريك الجانب النقابي في رسم ملامحه وان يفكّ الارتباط بين المنظومة التربوية والخلفيات السياسية الرسمية.
النقابة العامة توضّح
ضمن الحصة المسائية، قدم الاخ سليم غريس عضو النقابة العامة للتعليم الاساسي تقريرا مفصّلا عن عمل ممثلي النقابة في لجنة تجويد البرامج التي اشتغلت على البرامج والطرق والأساليب البيداغوجية ووسائل العمل والكتاب المدرسي والزمن المدرسي ونظام العطل، وبيّن ان ممثلي النقابة قدموا مقترحاتهم بكل استقلالية وأقنعوا في عديد المستويات بأفكارهم التي تم تدوينها في التقرير الختامي للجنة.
واشار الاخ غريس ان عمل اللجنة ليس ملزما للنقابة وان امكانية الانقلاب على اقتراحاتها من قبل سلطة الاشراف لن يمنع مكتب النقابة مع الادلاء برأيه في الوضوح والعلن موصيا الاطارات النقابية بالتجند ورصّ الصفوف من اجل تعديل موازين القوى لصالحها ولصالح القواعد لفرض مطالبهم وحقوقهم المشروعة.


تغطية: صبري الزغيدي

جريدة الشعب –السبت 29 ماي 2010

ورشة: المعلم، ما هو دوره في العملية التربوية؟

هل هو أداة تنفيذ أم منتج للمعرفة ؟

إذا اعتبرنا أن المعلم أداة تنفيذية في المنظومة التربوية فسيكون بالضرورة منفذ لسياسة تربويّة معينة حتى وإن كان غير مقتنع بجدواها وسيؤثر هذا سلبا في مردوده اليومي ويجعله غير مهتم بمستقبل منظوريه علميا وتربويا.

لكن نحن نريد من المعلم أن يكون عنصرا فاعلا في العملية التربوية لأنه هو الأساس فيها وبدونه لا يمكن أن نضمن نجاح أي مشروع إصلاحي للتعليم وأن يساهم بشكل كبير في إعداد أجيال جديدة من ناشئتا متمكية من لغتها ولغات غيرها ومقبلة على المعارف الإنسانية وثقافات الشعوب الأخرى.

انخرط المعلمون منذ سنة 1956 في عملية بناء منظومة تربوية مغايرة للسابق وعملوا على إنجاحها رغم تدهور ظروفهم المادية والاجتماعية يتملكهم إحساس بالانتماء إلى هذا الوطن وكلهم أمل في نحت شخصية وطنية قادرة على الاعتماد على ألذات للتخلص من كل أشكال الاستعمار وخاصة الثقافية منها وقد وجدوا في سلطة الإشراف في ذلك الوقت بوادر اهتمام بالتعليم العمومي الذي يمس كافة أفراد الشعب من شماله الى جنوبه جعل منهم يقبلون على اتشثار التعليم والنهوض بالمجتمع علميا وثقافيا دون إحساس بالتعب بل من كان من غير المعلمين في أواخرالخمنسيات والستينات يقدم التضحيات تلو التضحيات... فبرامج التعليم رغم بعض الثغرات إلتي كانت تحتوى عليها إلا أن المعلم وجد فيها هامشا استطاع من خلاله أن يقدم مضامين جيدة لتلاميذه مكنتهم من أن يكونوا مبدعين في شتى المجالات العلمية والثقافية والسياسية فكلما كان المعلم عنصرا فاعلا في المنظومة التربوية إلا وأقبل على إنجاحها إيمانا منه بأنه مسؤول في منظومة تربوية ساهم في بنائها.

أما وأن التعليم اليوم حاد عن توجهه السليم (عمومي وديمقراطي) فإنه بات من واجبنا كمعلمين ومن خلال نقابتنا أن تناضل من أجل أن نكون فاعلين في أي منظومة تربوية وهذا لايمكن أن يتحقق ألا إذا بادرنا برسم تصور لملامح إصلاح التعليم كما نراه كمعلمين فاعلين وإحراج سلطة الإشراف حتى تعدل من برامجها الإصلاحية وتعتبر نقابة المعلمين شريك أساسي في كل ما يهم التعليم.

المعلم بطبيعته عنصر فاعل في العملية التربوية التي يمارسها حتى وإن اعتبرته المنظومة التربوية أداة لتنفيذ خياراتها وهو مؤمن بما يقدمه لتلاميذه من معارف وما النضالات التي خاضها من أجل تحسين ظروفه المادية والمهنية إلا دليل واضح على ذلك بل وإن المتابع لتحركات المعلمين في السنوات الماضية يلاحظ تطورا واضحا لديهم في الاهتمام بما يتعدى مطالبهم المادية الضيقة وما تنظيمهم لعديد الندوات التي تهم إصلاح التعليم إلا شاهد على أن المعلم هو بالفعل عنصر فاعل ولا يمكن أن يكون غير ذلك فلا بد أن تهتم به سلطة الإشراف وأن تحسن ظروفه المعيشية وتوفر له كل ما يساعده في عمله اليومي.

ولن يتنسى ذلك إلا عبر.

1- تحديد ساعات عمل معلمي التطبيق ب 20 ساعات أسبوعيا وتنظير معلمي التطبيق الأول و أساتذة المدارس الابتدائية بأساتذة التعليم الثانوي من حيث عدد ساعات العمل.

2- الترفيع في منحة تكاليف العودة المدرسية إلى ما يعادل مرتبا شهريا وضرورة سجيها على كافة مديري المدارس الابتدائية ومساعديهم وعلى المساعدين البيداغوجيين والمعلمين الملحقين.

3- تطوير شروط الارتقاء إلى رتبة معلم تطبيق أول.

4- مراجعة مقاييس الارتقاء إلى رتبة أستاذ المدارس الابتدائية وذلك باعتبار الأستاذية فقط مهما كان الاختصاص.

5 إحداث رتبة معلم تطبيق أول فوق الرتبة وأستاذ أول وأستاذ أول فوق الرتبة .

6- الترفيع في المنح التالية: منحة الإنتاج لكل المعلمين ومنحة الإدارة ومنحة السكن للمديرين والمنحة العائلية ومنحة الأجر الوحيد .

7- الترفيع في منحة الريف للعاملين بالمدارس الريفية مع مراجعة مقاييسها.

أعضاء اللــجــنة

1 – عماد بن خليفة 2 – عادل العياري

3- المولدي العجلاني 4 – عبد الله الغانمي



[1] ـ أرشيف النقابة العامة للتعليم الأساسي بتونس نهج سوق أهراس تونس، قطاط(علي) عنوان الوثيقة الأرشيفية: "كلمة وجيزة حول الحركة النقابية التونسية في التعليم"، محررة بصفاقص في 20 جوان 1969، وملخصها في مؤلف: "خمسون سنة في خدمة الإنسان (1919-1969)"، عن النقابة القومية للتعليم الابتدائي،الطبعة الأولى جويلية 1969، ص 14-15.

[2] ـ -الأرشيف الوطني التونسي، السلسلة E ، الصندوق531، ملف1/299، سنة1922-1923، عدد القطع 20، القطعة عدد4، مذكرة الأمانة العامة للحكومة التونسية 30-7-1922

[3] - مجلة التعليم العربي، دار النشر غير معلومة، نوفمبر 1931، عدد الصفحات 40، ص 28

[4] ـ أرشيف النقابة العامة للتعليم الأساسي بتونس نهج سوق أهراس تونس:مراسلة بتاريخ 30/11/1936، عن نقابة المعلمين التونسيين للتعليم العمومي إلى متفقد التعليم الابتدائي.

[5] ـ أرشيف النقابة العامة للتعليم الأساسي بتونس نهج سوق أهراس تونس، وثيقة أرشيفيّة، مراسلة من اللجنة التنفيذية لنقابة المعلمين التونسيين للتعليم العربي العمومي بالإيالة التونسية بتاريخ 31 مارس 1937 إلى " الزليطني" رئيس فرع جربة، مسجلة تحت عدد 297.

[6] ـ أرشيف النّقابة العامّة للتّعليم الأساسي بتونس نهج سوق أهراس تونس، وثيقة أرشيفيّة باللّغة الفرنسيّة، غير مؤرّخة.

[7] -- - مجلّة التعليم العربي، العدد5، مجلّد9، دار النّشر: مطبعة" الإرادة" زنقة الرّياض عدد4 تونس، نوفمبر 1937، عدد الصفحات 80، ص 27/28

[8] ـ مجلّة التعليم العربي، العدد5، مجلّد9، دار النّشر: مطبعة" الإرادة" زنقة الرّياض عدد4 تونس، نوفمبر 1937، عدد الصفحات 80، ص17/18

[9] ـ أرشيف النّقابة العامّة للتعليم الأساسي بتونس نهج سوق أهراس تونس، وثيقة أرشيفيّة صادرة عن النّقابة التّونسيّ للتّعليم العربي العمومي، عدد الصّفحات 6، ممضاة من طرف عبد السّلام شرنين ـرئيسـ والكاتبان محمود عبد اللّه ومحمّد قاسم